
بقلم : محمّد القيق
يعمد الاحتلال دوما إلى إيصال رسالة متكرّرة بأنّ جنوده ومستوطنيه خطّ أحمر لا يمكن أن يعتقلوا أو يقتلوا أو يتعرّضوا لأيّ خطر؛ بل وتكون النّيران ردّه في هذه الحالات، تلك السّياسة يستخدمها لأجل ردع وترهيب ومنع لأيّ تحرّك يكسر هذا المبدأ من مبادئ قيام كيانه.
ولذلك تجد في سنوات خلت عبارة تغلغلت في الشّارع جرّاء تلك المنهجيّة في نشر الحرب النّفسيّة في صفوف الفلسطينيّين وهي “الاحتلال ما بخلّي جنوده أسرى ولا مستوطنيه” أو “بعرفوا كل إشي”، وتنتشر عبارات لمن ضحّى بدمه ونفسه ووقته مثل “ضيّع حاله”، “فش ناس بستاهل”، حتّى باتت الحرب على الأسير ليست من الاحتلال بل من أذنابه وأعوانه؛ فكلّ محرّر عقب الإفراج عنه يتعرّض للكثير من التّضييق من اعتقالات أو استدعاء أو منع من السّفر والعمل على غرار أيّام الاحتلال “التّرميج”.
على وقع الشّرح السّابق للحالة ننتقل إلى كسرها وكيف كان الثّمن؛ بالفعل إنّها مكلّفة جدّا أن ترسخ معادلة تمكّن المقاومة من أسر جنود الاحتلال؛ وإمكانيّة أن تقصف وتمنع وتحظر الطّيران، ولكنّها معادلة ما كان لها أن تنجح لو بقيت تلك الحرب النّفسيّة مستمرّة دون مواجهة، فكيف لنا أن نقنع أنفسنا أنّ مقاومتنا ضياع للنّفس والوقت بينما الجندي المحتلّ الذي يقتل ويبطش ويدخل للمدن هو شجاع ويدافع عن باطل ويجب أن نخافه، هنا كانت للمقاومة كلمتها فأعادت الهيبة للحقّ الفلسطيني وأظهرت فعلا لا قولا أنّ أسرانا خطّ أحمر وحرّيتهم من مبادئ مقاومة الشّعب وأنّ الحاضنة لهم تدفع ثمنا كبيرا بالحصار والقتل والدّمار؛ غير أنّها لا تكترث لذلك وما تريده حرّية أسراها أولئك الذين ضحّوا لتكون للقضيّة قيمة.
عشرات حالات أسر للجنود كان آخرها جلعاد شاليط في غزّة وثلاثة جنود في الخليل ثمّ الجنود الأسرى الذين ما زالوا في قبضة المقاومة في غزّة، ولهذا دلالة كبيرة تحوّلت في العقل الجمعي للمجتمع فباتت العبارات تتبدّل وتغيّرت لصالح الشّعب والقضيّة وكان ثمنها غاليا؛ إلا أنّها باتت حديث الشّارع وهي “طالما المقاومة أسرت جنودا فلن يعرف عنهم أحد”، “الاحتلال زي الأرانب مش قادرين يعيدوا جنودهم”، ” إذا أبو عبيدة بحكي تل أبيب تخلو شوارعها”، ” بن غوريون يغلقه الضّيف”.
وهنا نقطة التّحول التي تثبت أنّ صاحب الحقّ ولو أنّه في أعمق سجن وزنزانة وحصار ومؤامرة سيبزغ فجره، فلطالما بقيت رواية الاحتلال هي الأساس وفعله مرعب ثم تحوّلت كلّ الأمور لصالح الشّعب تدريجيا، وبات الأسير على قناعة تامّة وهو يتمشّى في ساحة السّجن أنّه سيتحرّر فيُعدّ جسده ويعمل على لياقة بدنه وعقله وخوضه التّعليم بشغف والمتابعة للأحداث، كفى المقاومة شرفا أن طردت الملل والإحباط من قلاع الأسر.
لذلك كل أمّة تحترم ثوّارها وأحرارها ولقمة عيشهم وكرامتهم حتما سيكون النّصر حليفها وإن حاول بعض من النّاس تمرير معادلة العزل للأسير وأهل الشّهيد وإفقارهم وجعلهم في مرتبة الذّلّ؛ فإنّ هذا لم ينجح وكسرت تلك السّياسة وها هم أبطال وفاء الأحرار تزوّجوا وأنجبوا وباتوا قادة في واقعهم وفي الرّباط وفي كلّ المجالات أعيدت لهم الحياة ليستمرّوا.
كرامة الأسرى وقيمة القضية متلازمة لا يمكن أن تكسر أو أن تهان، ولذلك وبعد هذا المشهد التّاريخي لأمل أعيد للأسرى من الصّعب أن تُلجم المقاومة أو تحارب أهلها، بل على العكس ورغم الثّمن الكبير فإنّ المقاومة عزّزت صمود الأسرى وشجّعت الشّباب على المواجهة ورسّخت قاعدة أنّ الحقّ لا يضيع وأنّ الرّجال الذين قضوا نحبهم لهم إخوان ما بدّلوا تبديلا.