عين على السجون

من وحي المعتقل (1)

بقلم : طارق المدلّل

 

تسير وحيدا مقهورا مظلوما في عالمك لا والد يقوّيك ولا أخ يسندك ولا أمّ تطبطب عليك وتغطّيك ولا ابن يقف الى جانبك…يأخذك ذلك السّجّان لينقلك بين غرف التّحقيق وزنازينها ليأتيك محقّق لا يعلم أدنى معالم الإنسانيّة…تغمض عينيك كلّما نقلك من مكان إلى مكان، مشبوح جسدك كقوس إلى الخلف، تترك لساعات طويلة حتى تكاد لا تشعر بجسدك إلاّ عظاما تقابلت مع بعضها البعض فتلاصقت كأنّ سكّينا قد كسرتها لتدخل في بعضها تمزّق ما في طريقها…أيّاما على هذا الحال وأنت صامد لا تستطيع الصّراخ لأنّه كلّما صرخت زاد التّعذيب تعذيبا…تتأّلم من كلّ شيء حتّى من طريقة الشّتم التي يستخدمها المحقّق معك…تمرّ الأيام وأنت على هذا الحال… تصمد وتصمد حتّى تظنّ أنّك قد انتصرت في النّهاية ولا تدري ما يخبّئ لك الغد….تنتهي هذه المرحلة لتبدأ مرحلة أخرى…مرحلة العصافير(الجواسيس)…

 

بعدما تظنّ أنّ محاولات المحقّق معك قد فشلت بكلّ وسائلها من شبح ووضع في زنازين بنور خافت يصدع الرّأس وبرد كأنّك في ثلاّجة …وأنت بكامل الضّغط النّفسي والجسدي يخبرك ذلك المحقّق بانتهاء التّحقيق معك وبقرار نقلك إلى قسم الاستقبال لدى الأسرى، تفرح في داخلك من نصر محقّق وترسم خيال النّصر وفي مخيّلتك ستقابل اولئك الأبطال الذين صمدوا وكيف ستقابلهم…يرجعون إليك ملابسك التي كانت معك ويتمّ نقلك إلى قسم (الاستقبال) وهناك تكون أوّل الضّربة القاضية…أنت الآن في قسم العصافير (الجواسيس) تظنّهم أبطالا ولكنّهم عملاء يشتركون في التّحقيق مع هذا العدوّ وأنت لا تدري…يسألوك أن ترتاح لأحدهم تهمس له أنّك وبحمد الله انتصرت على المحقّق، يبتسم ويحضنك، ترتاح وتزيل كلّ الهمّ عن كتفيك…لقد فلتّ بكل ما أحمل من اسرار…تنتظر أيّ لحظة لتخبر أصحابك وأهلك بنصرك..لتنقل لهم إنّني بطل وسأبقى بطلا، لقد انتصرت…تنتظر لحظة لترسل لهم ذلك…من ارتحت له يطمئنك بأنّه تكتب أو تخبره بما تخفيه ليرسله لهم. وتبدأ بالحديث…أو يسألك ذلك الشّيخ صاحب الهيبة لمن تنتمي وتقول له بكلّ فخر وعنفوان أنتمي إلى ذلك التّنظيم…فيحدّثك أنه قبل نقلك من قسم الاستقبال الى الأقسام الرّئيسية يجب عليك التّعاون بكلّ هدوء ليعمل لك نقاء أمنيّا ثم يقرّر نقلك…أو يستخدمون أساليب أخرى بكلّ مكر مع من لم يمر بهذين الأمرين(طبعا كل حسب دراستهم لشخصيته)…لتبدأ بالحديث أو بالكتابة وأنت لا تدري أنّهم يعدّون لك فخّا وكلّ ما تكتبه أو تتحدّث به عند ضابط التّحقيق..
تنام كما تشاء تشرب كل ما تريد من مشروبات…كل شيء متوفر لك كأنك في اوتيل صغير…حتى يكتمل الملف لديهم ليخبروك أنّه قد تمّ عمل نقاء أمني لك ورفعوا اسمك للنّقل إلى الأقسام الرّئيسيّة وسيتمّ نقلك في غضون ساعات أو أيّام قليلة…يأتي شرطي لينادي على اسمك لتجهّز وتهيّئ نفسك ثمّ يأخذك معه مغمى العينين لتجلس على نفس الكرسي الذي كنت مشبوحا عليه، وتبدأ في مرحلة أصعب من الأولى فلديهم ملفّ كامل بتاريخك النّضالي أو الجهادي لتنهار حتّى تكاد أن تنفجر لا تدري تبكي على نفسك أم تضحك؟ لا تدري ماذا تقول ؟و ماذا تفعل؟ …صدمة أخرى تتعرض لها حتى يكاد الموت أن يخطفك من شدّة الألم…

 

ويبدأ معك التّحقيق من بدايته وبأشدّ من ذي قبل، فهم الآن يملكون ضدّك كلّ شيء… في هذه الحالة ولعدم خبرتك بأيّ أمر كلّ ما يأتي في بالك بعد محاولات النّفي والتّكذيب لما لديهم،  فقط تحاول التّخفيف عن نفسك بكل شيء وتعمل كل محاولاتك لإزاحة التّهم عنك ووضعها في شخص مطلوب أو محروق لهم ولكن دون جدوي (وللعلم في هذه النقطة أنت الحالة التي يكون فيها الأسير مؤلمة وصاعقة ولا خبرة لديك أنّه بإمكانك أن تنكر كل شيء ولكن هذا في الوضع الطبيعي وليس في الحالة والضغط والخوف (  التي لا يدري فيها هذا المسكين ما يفعل).. بعد المحاولات الكبيرة والانهيار الذي يصيبك تصبح مثل آلة تمشي كما يشاؤون، تختم علي أقوالك وتبصم بأصابعك العشرة ثم تلقى في زنزانة لا تدري متى تخرج منها … تترك هناك .. تنادي، تصرخ، تبكي وتضحك، لا أحد يسمعك أو يردّ عليك … تمرّ الأيّام واللّيالي وكلّما تذكّرت ما حدث لك تبكي قهرا، ويااااا  لبكاء الرّجال قهرا …. تصل حدّ القول يا ربّ أخرجني من هنا إلى السّجن ولا أريد شيئا آخر…. حتّي إذا أبلغوك بنقل تخاف أن تعود إلى أقسام العصافير ومع ذلك تريد الخروج إلى أيّ مكان غير ما أنت فيه …. وتخرج من زنازين التّحقيق فتعتقد أنّ هذا أوّل الفرج لك …. تدخل إلى بوّابة قسم الأسرى الذين غيّبتهم السّجون لتشمّ رائحة المجاهدين الأبطال … لتشمّ فعلا رائحة هؤلاء الصّامدين … جنود غيّبهم الحقد والظّلم … تعرفهم بسيماهم ….

يتبع…

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى