
بقلم: بسمة عنان
زالت ملامح السّجّان القاسية يا أبتي وسأحتضنك وسأمسك بك ولن أسمح لذلك السّجّان أن يأخذك مرّة أخرى، لن أسمح له أن يؤذيك.
سأراك بدون شباك زجاجي، سنجلس جميعنا يا أبتي تحت ظلّ شجرة الزّيتون في قاع بيتنا، ستعلو ضحكاتنا جميعا من دون أن ينغّصها مدّة للزّيارة أو دموع الفراق.
ستمسك يديّ لأستند عليك كما لو أنّني ابنة العامين، سآتي إلى غرفتك في الصّباح أحدّثك وأمازحك بينما تعدّ أمي فطورنا.
إنّي أرى تلك الكلمات تجسّدت في صورة لين عند احتضانها لأبيها وتحسّسها لوجهه وكأنّها لا تصدّق ما تراه عينيها. فغياب والدها عنها لثمانية عشر عاما جعلها تتجرّع الفقدان وتعزف ألحان طفولتها دمعا وألما. ممّا أشعرها وكأنّها في حلم قد تستيقظ منه على حقيقة فقدان أبيها، وجعلها تستيقظ في اليوم الأوّل لتحرّر أبيها لتتفقّده في غرفته.
لين ابنة الأسير عماد الصّفطاوي التي ولدت وأبوها في غرف التّحقيق لتحرم من رؤيته، فلم تره لأوّل مرّة إلاّ بعد أربعة عشر عاما من ولادتها لمدّة خمس دقائق لتزيد تلك الدّقائق لهيب الشّوق وتشعل الحسرة في قلبها.
تجمّدت ذكرى طفولتها في بضع صور لأبيها، وإذا أرادت التّحدث لأبيها تمسك قلمها فتكون الرّسائل هي المسكّن لألم الشّوق والانتظار، هذا إن سمح المحتلّ للرّسائل أن تصل لعماد، فرسائل لين في بعض الأحيان يتمّ رفضها لأنّها تشكّل خطرا على أمن ذلك المحتلّ المتغطرس.
رسمة بسيطة لطفلة تمسك يد والدها ومكتوب فوق الرّسمة “أحبّك بابا”، هذه رسالتها وتتساءل تلك الطّفلة عن سبب رفض رسائلها فيكون وجه السّجّان الغليظ هو الجواب.
حتى الرّسائل طالتها قسوة الاحتلال وظلمه، فهي الأخرى اعتقلت في أمانات السّجن وفي بعض الأحيان تصادر للجنود لتصبح ملكا لهم، فكلّ شيء في فلسطين يئنّ من ظلم المحتلّ.
رغم بساطة تلك الرّسائل فإنّ الأسير يحتاجها ويحتاج حتّى رائحة ورقها، فهو في ظلمته يريد أن يُمدّ له ولو خيط رفيع من الذّكرى يجعله متّصلاً مع أبنائه وعائلته.
فإن لم تصله الرّسائل فهو يحتاج ولو لدعاء يسرج به مصباح قلبه فينير له عتمته ويهتدي به في ظلمات السّجون.
آه من ذلك الشّباك الزّجاجي أنظر لقساوته وكأنّ الظلم كلّه اجتمع فيه، هو الفاصل بين احتضان القلوب، هو المنغّص لبسمة كادت ترتسم على وجه الأب وأطفاله.
تلك النافذة يراها الأسرى وذووهم سوداء مظلمة لا تحمل أيّ شفافيّة، نعم هي سوداء فيها بعض الثّقوب لترى منها بعض الملامح.
وحتّى الحافلة التي تنقل الأهالي لزيارة أبنائهم تضجّ بالأماني ورهبة منع الزيارة، على أنغام “من جوا الزّنزانة سمعتك.. يا يمّا تناديني” تمشي تلك الحافلة ببطء وكأنّها أثقلت بمعاناة راكبيها.
ألم الفراق والحرمان من الأب منذ نعومة الأظافر انتهى عندما تحسّست لين وجه والدها ورأته.
لتبدأ بعد لين ألف حكاية للأسرى وذويهم ونكون نحن العون لهم في دعائنا بأن يكسر الله قيدهم ويرزقهم فرحة كفرحة لين بعودة أبيها.