بالورقة والقلم

إسراء الأسرى ومعراجهم

بقلم: بهيّة النّتشة

ينادي الأسرى بعضهم بعضا لحضور تلك الجلسة التي انتظروها بفارغ الصّبر، فاليوم سيجلس أكثر الأسرى قوّة في الإلقاء وأذكاهم في ربط الأفكار ولمس القلوب وشغافها فيبرئ ما سقم منها وما وهن، وما ران عليها من أسى السّجن ولوعة الفراق.

تحملق الشّباب وجلسوا جلسة المترقّب لزاد بعد طول سفر، فإذا بصاحب الوجه الوضّاء، يسير بتؤدة تعلو وجهه ابتسامة طبيب عارف محبّ…

أمّا أحداث هذه الجلسة فكانت تدور في قسم رقم سبعة من سجن ريمون الصّحراوي في فلسطين المحتلّة، وكان الزّمان يصادف حادثة الإسراء والمعراج العظيمة في ساعة صباح باكر لا شيء فيه يشبه صباحات النّاس في الخارج، فلا طيور تغرّد، ولا إطلالة جميلة مع كوب قهوة لذيذة، هو لون رماديّ فقط وجدران خانقة، وأمّا الأشخاص فهم أشراف القوم الذين ينتظرون حرّيّةً بعد أسر.

قال بعيون صادقة ونبرة دافئة:

لله الحمد من قبل ومن بعد، إنّني لأجد ما يربطنا في أسرنا هذا بإسراء سيّد الخلق ومعراجه إلى السّماء برابط متين! وإنّي أظنّنا نردّد يوميّا: “اللّهم إليك أشكو ضعف قوّتي، وقلّة حيلتي، وهواني على النّاس يا أرحم الرّاحمين، أنت ربُّ المستضعفين، وأنت ربِّي، إلى من تكلني إلى بعيد يتجهّمني، أم إلى عدوٍّ ملكته أمري؟ إن لم يكن بك غضب عليّ فلا أبالي، ولك العتبى حتّى ترضى، ولكن عافيتَك هي أوسعُ لي”

أراك أمامي-فكلنا نعيش معا في أمتار معدودة، وكلّ منّا حفظ أمنيات الآخر التي يدعوها بصوت خفيض مع الله- تردّدها كما ردّدها سيّدنا محمّد صلّى الله عليه وسلّم في الطّائف حزينا وحيدا لا سند لك ولا قوّة، فقد فقدت السّند مثله، فلا أمّة تنتصر لك ولا أنت بين أهلك، أنت مثله كلّ يوم لا سند داخلي لك ولا خارجي، ولكنّ الأمر لم يطل ليواسيه الله ويجبره برحلة رفعت مكانته في الأرض والسّماء، حادثة رغم غيبيّتها فإنّ الأمّة لا زالت تتحدّث عنها إلى يومنا هذا!

رحلة خطب الله بها ودّ نبيّه ومكّنه بعدها في الأرض، وما أشبه اليوم بالأمس، فقوانين الله على عباده ثابتة في الأرض، ولم تصلنا أحداث هذه المعجزة لنسردها لأطفالنا قبل النّوم، ونتأثّر بها تأثّرا لا يتجاوز المشاعر، هي قصّة حياة لنا جميعا، رحلة نستطيع أن نخوضها جميعا إذا صبرنا مثله عليه الصّلاة والسّلام وسرنا على خطاه في الثّبات وقيادة الأمّة.

فأخبرني، هل سَرَت روحك يوما على براق السّرعة إلى المسجد الأقصى، أم هل عرجت إلى السّماء؟

أظنّ أنّ لكلّ منا معجزته التي جعلته يسري في فجر هذه الأمّة بينما الكلّ نيام، تهفو روحه للمسجد الأقصى بوّابة السّماء ليمرّ في دربه على كلّ نبيّ، يُسلّم عليه، ويستمع لقصّته ويعيش أحداثها، ويأخذ منها الدروس والعبر…

تلك المعجزة التي جعلته يسابق الرّيح في تقديم الفداء بكلّ ما يحب لأجل أن يصل هناك فيصلّي في الأقصى صلاة يتخيّل فيها أنّه بين صفوف الأنبياء يصلّي خلف النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم وهو يؤمّ الكون جميعه في خشوع وطهر، صلاة يربط فيها الماضي بالحاضر فيبصر حرّيّة الأقصى القديمة تعانق حرّيّته الجديدة بفرحة غنّاء !

أحبّتي إخوتي الأسرى نحن هنا لأنّنا سرينا باكرا في رحلة هي أشبه بالمعجزة، ولن يصدّقنا فيها إلاّ الصّدّيقين أحفاد أبي بكر رضي الله عنه، والكثير للأسف سيرتد ظانّا منه أنّنا قد جُننّا ومعجزتنا هي مجرد وهم وحلم بل وضرب من الجنون!

كم منّا عرجت همّته وقيمه في سماوات الله السّبع، فارتقى حتّى اصطفاه الله واختاره ليكون هنا في السّجن الدّنيويّ والمعراج الرّوحي في الوقت ذاته، إنّنا نقول عن المتفوّق أنّه وصل لقمّة تفوّقه، وقالوا أنّ النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم وصل إلى ما لم يصل له أحد عند سدرة المنتهى، عندها جنّة المأوى!، فكانت قمّة القمم التي لا يماثلها قمم، وأنت في معراجك هذا الذي سبقت به الأمم قد تفوّقت في ارتقائك مع الله سبحانه، فبيننا الكثير ممّن رأى الموت بعينه في رصاصات المحتلّ وعذابه الذي في الزّنازين، وكلّنا قد شعر بقرب الله منه وكأنّه في مكان يشبه تلك السّدرة، يخاطب الله ويخاطبه الله في مناجاته فيطبطب عليه ويمسح على روحه..

وبعد إسراء كلّ منّا ومعراجه سيأتي اليوم الذي نمكن فيه في أرض كيثرب أرض خصبة ذات زرع فننمو ونزهر، سيأتي يوم تثمر روحنا حرّيّة، يشهد لها العالم أجمع فيؤرّخونها، ويحتفلون بها كما نحتفل هكذا نحن كلّ عام بحدث كهذا عظيم يحرّك القلوب شوقا للقاء الله ولقاء حبيبه المصطفى صلّى الله عليه وسلّم

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى