زاجل الأسرى

رحلة رسالة

بقلم : هيفاء أبو صبيح

تكتب بقلم قلبك لتخطّ حبر الشّوق على صفحات الحياة المبتسمة، لتطير هذه الأشواق والكلمات عبر آلة الزّمن في صراع البقاء وبمواجهة العديد من المخاطر لتنجو وتذهب في أحضان أهلها ومن كتبت له…

رسائل الزّنازين، ذلك النّور الذي يرسمه الأسير بحبّ ولهفة وأمل وكأنّه يضع روحه بين ثنايا تلك الصّفحات الحاضنة لتلك الرّوح وتمرّ في الزّمن الأوّل والثاّني واللاّمنتهي من الأزمنة، وفي حقبات التّفتيش والتّدقيق في أحرف الكلم، فلعلّ بعض الحروف هنا أو هناك كانت ممّا يخرق الأمن المزعوم بدولة أكثر زعما للتّزوير.

من أصابع تلفّها بمحبّة العاشق الولهان ولهفة المتعطّش لنسيم عليل بيوم حارّ مقيت، يلفّ الأسير رسالته بكلّ مافيها ويستودعها الله، أجل ويصلّي من أجلها لتصل بالسّلامة، فسلامة تلك الأوراق من سلامة روحه العاشقة للحياة، وكما الأسير عنيد ويكابد عثرات السّجن ويعاند السّجّان اللّئيم، فإنّها هي أيضا عنيدة لا تستسلم بسهولة، فهي لا تكترث لكثرة محطّات التّفتيش، أو حتّى للعدد الكبير من الفضوليّين لمعرفة فحواها، فصحيح أنّ كلماتها واضحة إلاّ أنّها في طيّاتها تحمل أسرارا من المحيط إلى الخليج، وبرغم وسائلهم وتفتيشاتهم فإنّها تحتفظ بعذريّة أسرارها لصاحبها بلا رهبة من ذلك السّجّان ، وتمضي بطريقها مهما بلغت فترة ركودها القسري هنا أو هناك، تمضي وتركض متلهّفة بمحبّة وشوق لتصل إلى صاحبها بسرعة البرق..

مهما طال سفرها هي تعلم أنّ هذه محطّات جبريّة لا دخل لها به وذلك لا يقلّل من عزيمتها أو صبرها أو حتّى تحدّيها. تمضي شامخة مرفوعة الرّأس بكلّ عنفوان، تبقى تلك حالتها حسب بعدها عن مكان سكن المرسل له. تمتدّ رحلتها من أسبوعين إلى شهرين أو ثلاثة وأحيانا -ولحظّها العاثر- تبقى خمسة شهور في محطّات البريد، وهي بداخلها تضحك منهم ساخرة لأنّ المسافة التي تفصلها عن طالبها لا تتعدّى الأمتار البسيطة التي لا تحتاج إلاّ لبضع دقائق بالسّيّارة، ولكنّها تعلم حقّ المعرفة أنّها مستهدفة كما كاتبها حبيس الجدران تلك في قلاع الأسر، وأيضا تعلم أنّها على ذلك الوعد الذي قطعته في قبلة ذلك الأسير حينما ودّعها واستودعها رحلتها.

تزداد صلابة وإصرارا وينطوي ذلك الظّلام الحالك وتتبخّر روائح محطّات البريد، وترنّ زغرودة لا يوقف صوتها الثّائر أيّ سلاح في الكون، لتستيقظ الرّسالة من دويّ الزّغرودة في الأرجاء لتجد نفسها في أحضان من كتبت له، وكأنّ بعد المسافات والأزمنة وعثرات الطّريق لم تكن إلاّ وقودا للفرح ومشاعل للنّور، حينها تدقّ طبول القلوب ما إن تفتح الرّسالة لترقص الدّموع في عيون قارئها وتنزل مهرولة بين مشاعر مختلطة بفرح لا يقدّر بكنوز الدّنيا لتلك الكلمات في الرّسالة، وبين حزن مرير يمزّق أوصال المحبّين بالبعد وقلّة الحيلة…

ومن لحظة وصول الرّسالة تقام حفلات الاستقبال والتّهاني والمباركة حتّى لتظنّ أنّ كاتب الرّسالة حرّ تقبّل التّهاني بحرّيته من كثرة حضور المهنّئين بتلك الرّسالة، أجل هي روح تتناقلها المسافات والعثرات لتصل الأرواح ببعضها في جسد واحد لا يكلّ ولا يملّ يتنفّس الحرّية عبر تلك الرّسالة، فالأسير يتذوّق جزءا من حرّيته بأوّل خبر يصله عن وصول رسائله سالمة إلى أهله، وهنا يصبح حرّا رغم القيود.

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى