
الأسير المحرّر م. بلال استيتي
في الباص – وأنا افكّر في هذه الحياة التي نعيشها- كانت أخت تتكلّم بجوّالها بصوت عال مع ابنتها -كما فهمت- بعد أن عادت من زيارة ابنها المسجون في سجن نفحة الصحراوي، فتخبرها أنّها كانت تقوّي من عزيمته في السّجن، وعندما سألها عن أفراد من العائلة أجابته إنّهم مسافرون إلى الأردن وغيرها من الدّول، وقالت له تخيّل أنّك على البحر في ماليزيا وأنت في سجنك فالله سيحقّق لك أمانيك وتخيّلك قريبا لأنّه القادر على كلّ شيء، فحتى لو كنت الآن في ضيق الزّنزانة ولكن الله سيمنّ عليك بسعة قريبة كما منّ الله على غيرك من الأسرى المحرّرين في الضّفة الغربيّة أو في قطاع غزة أو في تركيا وقطر وغيرهما من الدّول التي استقبلت الأسرى المحرّرين الذين أتمّ الله عليهم بنعمة الافراج من السجون الظالم اهلها الى سعة من من نعم الله بعد سنوات طويلة من الاسر والزنازين والظلم والمرض.
حكيتله “يمّا والله إنّي بحب نفحة لأنك فيها”، ذكّرتني هذه الجملة في زياراتي الأربع التي زرتها خلال سنوات سجني عند الاحتلال لمدّة 4 سنوات من الظلم والقهر والمرض والأسر، فأم الأسير وأهله وأصحابه المقرّبين فقط من يشعرون بمأساته ويحسّون بآهاته ويهتمون لمعرفة أخباره، نفحة المنطقة الصحراوية التي يصعب العيش فيها صيفا أو شتاء لطبيعتها الصحراوية ومناخها القاسي أجمل مناطق الكون وأجمل من تركيا وماليزيا وغيرهما بنظر الأم لأن ولدها المقاوم يعيش فيها في زنزانة صغيرة يتحدّى فيها أكبر قوة ظالمة مغتصبة لحقوق الغير في العالم المنافق الذي نعيش فيه.
الأسر أصعب ما في الحياة من عقاب قد يحسّ به بشر، فهو عقوبة مركّبة ممزوجة بالألم، فالأسير رغم كلّ ما يعمل لكي ينجز فترة حكمه في الأسر من تنمية وتطوير شخصه وتحويل فترة سجنه من محنة إلى منحة فيعمل على ترتيب وقته وفي تعلّمه وقراءته من أمور ثقافية وتنمية عقلية وحفظ لكتاب الله والتّعرّف على أهل فلسطين وجغرافيتها وتاريخها من خلال عيون وقلوب الأسرى الذين يلتقي بهم من مدينة رفح جنوبا حتى مدينة جنين شمالا وقراها المختلفة الممتدة ولهجاتها وثقافاتها وعائلاتها وطعامها وغيرها من الأمور، إلا أنّه يبقى يحس في الم لا يعرف كهنه الا من عاشه وخصوصا من يمكث في السجن لفترة طويلة وخصوصا في فترة الصيف التي تكثر فيها المناسبات الاجتماعية من أعراس وتخرج من الجامعات ونتائج الثانوية العامة التوجيهي.
أتذكّر أنّني بعد 85 يوم تحقيق في قبور زنازين الجلمة بجانب مدينة حيفا المحتلة، وثاني يوم وصولي إلى سجن مجدو القريب من مدينتي أم الفحم وجنين كانت نتائج الثّانوية العامة، وقد تحصّلت اختي في حينها على معدل عال 92 % ، فحاول الأسرى التخفيف عني وعن غيري من الأسرى ممّن لديهم أقارب ناجحين في الثّانويّة العامة وحيث أنني كنت يومها في المحكمة فكانوا يسمعون عبر المذياع أسماء الناجحين التي كانت تبثها المحطّات المحلية والتي يتم سماعها بأماكن محدّدة فقط في الساحة في السّجن، وأتذكّر أنّني طلبت من الأسرى أن يعطوني حلويات من الكنتينا لاوزّعها على “الشباب” بسبب نجاح أختي.
فالسّجن والأمور الشّخصيّة والتّفاصيل الصّغيرة في حياة الأسير وعلاقته بأهله من أصعب الأمور المعقّدة في الحياة الفلسطينيّة المقاومة التي تمتزج بها العواطف بالتّحدّي للمحتل، فهي بحق آهات عزّ في طريق الحقّ والتّحرير لوطن محتلّ.
في الأسر تمتزج الاهات بالأفراح ودموع الحزن مع دموع الفرح بطريقة مميّزة مختلفة لا تقدر على وصفها باي كلمات كانت، فهي كالرّوح في جسد الفلسطيني الذي تخلّى عنه القريب والبعيد في مواجهته لأقذر احتلال موجود في هذا الكون، ولكن الإيمان بالله وبعدالة القضيّة والحق التّاريخي للإنسان الفلسطيني هو أقوى سلاح يواجه به إرهاب الاحتلال وأعوانه.