أدب وفنونحروف على أعتاب الحرية

والدي ووالدة الأسير وليد دقة و”الزهايمر”..

بقلم : الإعلامية والأسيرة المُحررة أحلام التميمي

 

خمسٌ وأربعون دقيقة، ظلَّ ينادي فيها الأسير وليد دقة على والدته التي زارته بعد انقطاع ستة أعوام من خلف الزجاج العازل، ثم حاول محادثتها عبر الهاتف، ولكن دون جدوى فقد قابلته بالصمت، نظراتُ تعجّب لماذا هي هناك؟ وتتساءل في ذهنها من هذا الذي يناديني؟ وأين أنا ؟ هل أنا في الماضي أم الحاضر؟ ولماذ الكل يقول لي هذا ابنك… إني لا أعرفه ؟!

كم هو قاتل شعور الغربة عن الوالدين، كم هو موجعٌ شعور العودة من زيارتك اليتيمة يا وليد، وقلبك يبكي، فلحظة الحرية لا تزينها ولا يهم الأسير فيها سوى وجود حضن أمه ليغمر نفسه داخلها، ويبكي _ نعم يبكي_ حتى لو تجاوز الخمسين، فكلنا أطفال أمام أمهاتنا، مشهد الحرية هذا، بُتر عند وليد دقة؛ فهي ما عادت تعرفه، والحريّة باختصار هي الأم ..

لا بدّ أنك اعتليت “برشك” وأسندتَ رأسك على الخمس، تنهيدة عميقة بعمق الوجع المتراكم، دمعة من الجوف تخرج، وبدءُ مرحلة التأمل بعمر الإنسان وتحوله، بتعب الفكر وضمور الدماغ، كيف لتلك التي صمدت معي في أسري لأكثر من خمسة وثلاثين عاماً أن لا تصبر بضعَ أعوامٍ أخرى لتراني في أحضانها، كيف لي أن أراها ولا تراني، أن أناديها أمي ولا ترد يا بني!

ستعصف بك التساؤلات يا وليد، وسيجافيك النوم، كحالي حين ناداني والدي بعد حريتي وغربتي عنه لعشر سنوات ونصف، باسم فتاة أخرى، من عالم ماضيه الذي لم أسطر فيه جملة واحدة، تنكَّر والدي لي ولعموم أبنائه وبناته، تنكَّر للمكان والزمان، فضرب قلبي بالصميم، كلما ناديته يا أبي، رد علي “لم أكن يوماً أب” !!!

يصف الأطباء داء الزهايمر بأنه اضطراب تدريجي يؤدي إلى تلف خلايا الدماغ وموتها تدريجياً، وهي حالة تتضمن إنخفاضاً مستمراً في التفكير والمهارات السلوكية والاجتماعية، ما يؤثر سلباً على الشخص وقدرته على العمل بشكلٍ مستقل.

 

ومن صلب تجربتي مع والدي أُعرِّف الزهايمر بأنه مرحلة إنتقال الأب أو الأم من دورهم الوظيفي كوالدين إلى مرحلة الطفولة والحاجة للاهتمام والرعاية الخاصة، مما يؤدي بالضرورة لتبادل الأدوار الوظيفية بين الوالدين والأبناء ليصبح الأبناء آباء للوالدين والرعاة الوحيدين لهما.

المفارقة العجيبة والصعبة عليك يا وليد عند تحررك، هي الطفل الذي بداخلك، الذي ما استطاعت قضبان السجن وصدأ المكان الذي تغلل عنوةً إلى جسدك أن يقتله، فالأسرى بالمجمل، يحافظون على روح الطفل بداخلهم، ويتحررون بذات الروحيّة، بذات العمر الذي تم أسرهم فيه، لتضعهم البشرية الظالمة تحت مجهر المراقبة، فتُحرِّم عليهم لعب كرة القدم، أو الركض على ساحل البحر، أو ارتداء ما ينافي كريزما القائد- التي سطّروه بها- وتناسَوا تماماً أنّ الأسير كتلة رغبات، منعه السجان من تحقيقها، وبعد تحرره هو بأمس الحاجة ليمارس كل الحماقات التي كتمها بداخله لسنوات طوال، ستصدم يا وليد بهذا الواقع المُر، لتلجأ إلى أمك فتجدها في عالم آخر ، لربما لجأت إليه هروباً من تعب السجن الذي نأسر والدينا فيه معنا بأنانيتنا ربما أو دون رغبتنا، في النهاية النتيجة واحدة، أنهم يُؤسرون معنا، وأظن والدي لجأ للزهايمر كي ينسى وجع سنين السجن التي طبعت فيه حتى وإن لم يدخل السجون، فمجرد وجود فلذة كبده، وصغرى أبنائه خلف القضبان يجعله يكابد الألم والتعب وعناء التفكير، والدي ووالدتك يا وليد هربا إلى عالم اللاتفكير، حيث يسبحان في بحر الماضي، الذي ستكتشف لاحقاً، أنه ماضٍ قاسٍ بالمطلق عليهما، لتخرج بنتيجة تستسلم لها بالمطلق، “أن دعها تنام في الماضي بهدوء …” وتحاول أن تزيل عن كاهلها بعضا من ألم السنين بأن “دعيني أعوضك عن ماضيك وحاضرك، وما اقترفه الزمن بحقك”.

ستجد نفسك يا وليد تفرد ذراعيك لتحتوي أمك الطفلة، لتتساءل هل هي أمي أم ابنتي؟ ستمارس وظيفة تجديل شعرها، وإطعامها بالملعقة، ستمسح ما نزل من فمها من بقايا طعام، وستنظر إلى عينيها، ستجد صورتك مطبوعة في الحدقات، فلا تقلق يا وليد، ستبتسم لك، هي تشعر بك، ولكنها لا تعرفك.

ستحاول أن تُذكِّرها بك، وبطفولتك، كيف كانت تناديك، وكيف كانت تلبسك، ستذكِّرها ببعض المواقف الخاصة، كما حاولتُ جاهدة أن أذكِّر والدي، بكيس “الزواكي” الذي كان يحضره لي يوميّا من دكانه الصغير، ويخفيه خلف ظهره، حتى ألاعبه وأستجديه أن يعطيه لي، ثم يقبّلني ويضعه بين يدي، تحررت من السجن وأنا أرقب تكرار هذا المشهد، بل وكلُّ ما في داخلي يحتاج أن يتكرر ولو لمرة، كي أعوّض حاجة الطفولة في داخلي، ذكرته به كثيراً، ولكنّي عدتُ بخيبتي إلى حجرتي في الحرية، التي ضاقت عليّ بما رحبت أمام نسيان والدي لي، بريق الحرية خفت، ما عدتُ سعيدة، والسعادة بمفهومي هي والدي، هي أمي التي بحثتُ عنها بين الناس المجتمعين حين خروجي ولم أجدها، ولم أُرد غيرها ولن يعوضني أحد غيرها.

سيربت على كتفك البعض قائلاً: لا تحزن ستكون زوجتك كل شيء، هي أمك وأبوك وأختك وأخوك، لا تصدقهم أبداً الأم أم والأب أب، لا أحد يمارس دور الآخر ولا أحد يتقن تلك المشاعر الغريبة التي يصنعها مصنع أمي وأبي بتركيبتيهما الخاصة التي أصفها بالسحرية، فلا تصدقهم ستكون الحرِّية قاسية حين تنظر لأمك الموجودة جسداً ولكنها هناك.. حيث عالمها الخاص الذي هربت إليه من قسوة السجن الذي فرضته عليها دون قصدٍ منك، كما فرضته أنا على والدي دون قصدٍ مني.

هي لا تعرفك يا وليد، ولكن يكفيكَ أنّك تعرفها، ويكفيك أن تستغلّ ما تبقى من سنوات أسرك، لتفكر كيف تنسج لها كلمات الطمأنينة، لتريح مسمعها كل لحظة، قائلاً: أنا ابنك وأنتِ أمي، أنا لكِ ما تبقىّ لك من عمرٍ بقربي، وخذها بين ذراعيك، ستشمك وستأتي لحظة واحدة ستتذكرك، هي ذات اللحظة التي استغرقت أقل من ثانية، حين ناقشتُ رسالة الماجستير، ودقق والدي فيها النظر وقال: “أليست هي “حلوم” !!” وابتسم، لأقل من ثانية لقد تذكرني وكانت هذه الجملة، كفيلة لتشعرني، أنني الآن حرة.

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى