
بقلم : قتيبة قاسم
منذ اللحظة الأولى التي ينتقل فيها الأسير من عالم الحرية إلى عالم القيد وعالم الحياة التي لا تشبه بحال من الأحوال تلك التي كان يحياها بين عائلته وأسرته أو حتى في عمله أو مع أقرانه، فإن الحياة هنا تختلف كلياً عما كانت عليه، وتكاد تكون مجتمعاً قد أنشأ لنفسه طقوساً وتقاليد وعادات ألقت بظلالها على المشهد الاعتقالي لظروفها الخاصة التي لا تشبه ظرفاً آخر.
حاول الأسرى ومنذ بدايات الاعتقال الأول لأوائل الفدائيين والمناضلين الفلسطينيين بناء مجتمع خاص بهم وتوحيد الجهود فيه، بأن تُوجِد لأبنائها رغم كل المعوقات والظروف حالة من الانقياد والمسير نحو جهد واحد مشترك يقضي بأن لا ينعكس أثر القيد سلباً على الأسير وأن لا تتزعزع إرادته أو أن تضعف أو أن يكون جلّ وقته هائماً بين الأحزان والذكريات.
لقد عملت القاعدة الأولى في دستور هذا المجتمع لأن تكون الحياة وسط معمعان القيد حياةً مطلقةً تتجاوز كل قيود المحتل وتضع لها قيداً ينظم حياتها وشؤونها، ولا يُطلق العنان فيها دونما حسيب أو رقيب، وينتظم الجميع دون استثناء تحت لواء من الإنصاف والعدالة والمساواة، ثم يظل المجتمع الأسير في موقعه مجتمعاً مصغراً يحاول انتقاء ما يصلح له من صورة المجتمع الحقيقي خارج الأسوار ولربما نجح في أن يكون حقيقياً أكثر من تلك المجتمعات المتحررة من القيود والأغلال.
قريباً من ستة أعوام عايشتها كفرد ولبنة من لبنات ذلك المجتمع فكانت كفيلة لفهم أقرب لهذا المجتمع وحالته التي لا تبتعد كثيراً عن كونها محاولة جادة للتحدي وإثبات الوجود ورفع لواء الشموخ في زمن الانكسار، فالمجتمع موحدّاً يعزز تكامل الأفراد وتلاحمهم في سبيل المواجهة لنيل الحقوق، تنزوي كل ظاهرة فردية وأنانية فلا يخرج عن ذلك المجتمع إلا من اختار لنفسه أن يكون وحيداً في مجتمع لا يقبل الإنزواء ولا الخروج عن إجماع قلّ نظيره.
في ذات المجتمع يهبّ الأفراد ومن خلفهم تلك الجماعات التي تشكّل الإطار الضامن لأبنائها ولشؤونهم يُسمع الأسير القادم من سجن مجدو وصدى صوته قد دوّى في معتقل النقب، ينتفض المجتمع عن بكرة أبيه إذا ما لاحت غيمة فوق أحد الأقسام أو السجون، ينافحون لأن يظل مجتمعهم موحداّ قد بَنَوا أركانه ومفاصله بالدماء.
ليس غريباً أن يكتب الفصحاء ولا البلغاء شيئاً عن تلك الحياة هناك، ولا يجب القول بأنه من الضرورة بمكان أن يُفرد الباحثون بعض أو كثيراً من وقتهم لفهم ذلك المجتمع ودراسته ففيه من النماذج ما هو حريّ بالاقتداء والتعميم، وحريٌّ بالأمة أن تستلهم من تلك النماذج العصيّة على الانكسار وحدتها وأفكارها وتطبيقها العملي لمبادئ الجماعة والاتحاد وكيف استطاعت أن تنبذ الفرقة والخلاف، وها هي المجتمعات الأسيرة تجمع أفكاراً من هنا وهناك وقد اختلفت خارج حدودها القلوب وأنكر كل طرف على الآخر بينما تنجح هي في جمع الكلمة والموقف وطرائق المواجهة المختلفة، وذابت في كينونة الميدان ما تنفر منه العقول وما تقبله وما يحب الأفراد وما يكرهون، وانصهرت في متاريس المواجهة كل خلافات الأفراد والجماعات، وتوحدت في طريقها الطبيعي لمجتمع يرزح تحت قيد محتل واحد لا يرقب في أحدهم إلاًّ ولا ذمة.
إنه مجتمعٌ فهم طبيعة المرحلة التي يخوض غمارها أيّما فهم، يمارس حقه الديمقراطي بين فترة وأخرى وهو مُلزَم بها وملتزم بنتائجها أيّاً كانت، يُعطي الدروس في تطبيقاته العملية لمبادئ الاحترام للآراء والأفكار، ولا فرق بين أسير وأسير حين يتبادل الصغير والكبير أسس العطاء وأماكن الريادة والبناء وبث الوعي والانتماء.
وإذا ما أوغلت في أعماق أولئك المجروحين تراهم يرسمون في كل وقت وحين من محنتهم لوحات من العطاء تتعالى على الجراح ويغرسون الصبر أشجاراً تحرس ميدان الملحمة، يقفون صفاً منيعاً أمام عدو واحد مشترك، يضمدون جراح بعضهم بعزيمة لا تعرف الانحناء، يتشاركون معاركهم كأنها المعركة الفاصلة، تحت لواء واحد، وإذا ما هبّ الخطر ينتقلون من خطوات إرجاع الطعام والاضراب إلى أبعد من ذلك بكثير، إذ لا حسابات دون أن تعيدهم مواجهتهم منتصرين فلا يقبلون.
في مجتمع الأسرى حياة تنجح بالتصدي لتعقيدات وعقوبات لا تتوقف تفرضها إدارة السجون فتتجاوزها منتصرة إذ تختزلها سنين المواجهة فتجعلها وراء ظهرها فتختفي حين يتسلح الأسرى بمعاقلهم بالإيمان من جانب ومن جانب آخر بقدسية العلم والعمل، يخطّون ويضعون “لوائح داخلية” تنظم كل صغيرة وكبيرة في جوانب حياتهم وتتجاوز مراحل التنظيم إلى البناء وبث الوعي والارتقاء.
إذا ما دخلت إلى غرفهم وأقسامهم فتراهم يتقاسمون شظف الحياة ومرّها، والحلو فيها تلك البركة الممتدة بين ثنايا المخلصين وهم يتحلّون بأخلاق السابقين الصالحين فتسمع في أنحاء مجتمعهم عظيم القصص من العطاء والإيثار والتضحية، مجتمع متماسك إذا ما دبّت عندهم النوازل قادرين على المواجهة، وإذا ما جاءتهم البشرى تراهم يحلّقون خارج الأسوار وفوق كل قيد، مجتمع متعلّم ينقل فيه صاحب الخبرة تجاربه، فيتحول المكان والزمان جامعة يوسفية ومدرسة ملحمية تتداخل فيها العلوم والمعارف في سلّم البناء، وإيجاد فرصة فد لا تتكرر من النهل من علوم قد لا يطيق الحرّ خارج الأسوار لها إلماماً ولا معرفة ولا صبراً، مجتمع متكامل من الهمم المعطاءة التي لا تنظر إلى سفاسف الأمور، فترى أحدهم يحفظ القرآن في شهرين أو أقل، وتتوالى الهبات الربانية عليهم لطفاً وتثبيتاً، فتقام موائد القرآن طوال الوقت فيتقن أبناء ذلك المجتمع أشرف العلوم وأعظمها على الإطلاق.
مجتمع لا ينسى من هم خارج حدوده، يتواصل معهم كلما أتيحت له الفرصة، ينقل لهم من شوقه ومحبته، كلٌّ على طريقته الخاصة وبإمكاناته التي لا تعيقها القيود أبداً.
أما وقد يتضح بأنا رسمنا صورة وردية عن ذلك المجتمع فإنه ولكل مجتمع أخطاؤه وامراضه وهفواته التي لا بد منها، لكنها في أتون معركة الصمود تختفي، وحين كانت إرادة الأسرى تنتصر على كل معضلة تعترض الطريق كان من نافلة القول أن لسان حال المجتمع أن يكون قدوة من العطاء يندر مثيلها في زمن تُحارَب فيه النهضة ومشاريعها أينما انطلقت وبدأت أو رسمت لها طريقاً منه تحاول الوصول.