
بقلم : بسمة أيمن عنان
تتنقل عينيها بين وجوه الأسيرات حولها كأنما أغشي على وجوههم، لا حديث ولا أنيس في حضرتهم سوى الصمت والملامح الباهتة، جلست حيث سريرها الذي يجثو في زاوية غرفة السجن، فأصابها دوار من الهواجس والتفكير” هل افتقدنا أختنا المريضة” لكنها أدارت وجهها فوجدتها تجلس أمامها، لم تنتهِ من أسئلتها المتوجسة؛ حتى قطعت خلوتها إحدى أخواتها ودموعها تتساقط من مقلتيها؛ ربتت على كتفها وبدأت تذكرها بالأجر الذي أعده الله لها وللأسيرات مقابل صبرهن ومضي زهرة أعمارهن خلف قضبان السجن، وخزها قلبها وكأنها تشعر أن هناك أمرا مريبا، ودارت في نفسها الأسئلة، “ما الذي دفع هذه الأسيرة إلى الحديث عن الصبر وفي هذا الوقت الذي أعاني فيه حرماني من رؤية أبنائي الخمسة وزوجي لأكثر من ثلاثة شهور؟ صمتنا برهة من الزمن فلا هي تدري ماذا تقول، ولا أنا أعلم ماذا تريد أن تقول هي، تلعثمت كلماتنا في أفواهنا وامتنعت عن الخروج.
ماجدة ..نحسبك من الصابرات القويات ولم نرَ للجزع إليكِ سبيلاً، طوال سبع سنوات مضيناها سوياً تحت سقف جدران سجننا المتهالكة كنتِ أنتِ من يقف إلى جانبنا، كنتِ أنتِ من تهوّن علينا ليالينا العجاف، وقوّتكِ أحالت سنواتنا العشر إلى ساعات ودقائق بكلماتكِ التي زادتنا صبراً وقوّة…
بدأ الوجع يتسلّل إلى قدمي وبدأت دقّات قلبي تهوي فقاطعتها: تحرير أرجوكِ أخبريني ماذا حصل؟ هل حدث شئ لصغيري، أم لزوجي؟ أرجوكِ أخبريني، كلامك بهذه الطريقة ينبئني بحدوث مصيبة.. ؟أخبريني، أم أن ..؟
وقبل أن تتفوه تحرير بحرف كان التلفاز أسرع منها حيث ورد الخبر العاجل على لسان مذيعه باستشهاد محمد الفارس ابن العشرين عاما.
سقطت ماجدة أرض غرفتها التي مقتتها ولم تفق إلا على صوت أهازيج الشهداء الوطنية المنبعثة من تلفاز السجن، بدأت دموعها بالاتحاد مع هذه الأهازيج لتعزف لحناً جديداً من ألحان الصمود والتحدي، لتكون أول كلمة تتفوه بها” يما الله يسهل عليك، قلبي وربي رضيانين عليك”
وعلت أصوات الزغاريد من أفواه الأسيرات لتصطدم بجدران السجن البالية وترتحل هناك بعيداً حيث جسد محمد المحمول على أكتاف المشيعين واتحدت الزغاريد مع هتافات المشيعين ” يا شهيد ارتاح ارتاح راح بنواصل الكفاح ..”
وتابعت ماجدة جنازة وليدها الذي تركته ابن الخمس سنوات وودعته على شاشات التلفاز وقد أينع شباباً وقوة، ودّعته وقد فاح شهادة وعبيراً بعد تنفيذه لعملية طعن أودت بحياة مستوطن لعين.
لم تنسَ الماجدة نظراته عند زيارتها للمرة الأخيرة، كان ينظر للسجان وكأنه يريد أن يفترسه فعندما رأت فيديو تنفيذه للعملية علمت أن شبلها قد رضع حليب الشجاعة والحقد على هذا العدو بما يكفي، حتى كفاه هذا الحليب في سنوات غيابها لأن يكون أسداً ينهش لحم عدوه الذي حرمه أمه وأنسها وحتى حضنها .
لاحت الماجدة بيديها وهي تتابع ملامحه الباردة حتى وضعه المشيعون في أكفّ الوطن زهرة أينعت عطراً وحياة للوطن، واستودعته رب الوطن وحاميه.
بعدها قرعت أبواب الغرفة ودخلت قوات مدججة بالسلاح وانهالت على الأسيرات ضرباً وتنكيلاً، واقتاد السّجّانون الماجدة إلى زنزانة العزل الانفرادي وتفوه أحدهم”ابنك ارهابي وانتِ إم الإرهابي”
فأجابته الماجدة:” ابني بطل قهروا ظلمكم وبطشكم ولا تفكروا محمد مات، في بعده ألف محمد حتى تندحروا عن وطننا، ونشوف احنا النور…