إلهام الأسرواقع السجون

ما بين جائحة كورونا والأسرى في سجون الاحتلال

 

بقلم: محمود العايد

وأنت في بيتك .. عندما أمسكت قلمي لأكتب عن حالهم وأحوالهم، لم أعرف من أين أبدأ؟ وكيف أبدأ؟ انتابتني حيرة شديدة، هل أبدأ من حيث انتهى الآخرون أم أبدأ حيث بدأ الآخرون .. بعد شد وجذب بيني وبين ذاتي وصلتُ لقناعةٍ مفادها ليس المهم من أين أبدأ؟ وكيف؟ المهم أن أوصل رسالتهم لأكبر شريحة من الناس في العالم على اختلاف توجهاتهم الفكرية، ومرجعياتهم المذهبية، وخلفياتهم الأيديولوجية ..

قبل ثلاثة أشهر من كتابة هذا المقال تقريبًا كان الناس يتنقلون في العالم ويجيبونه من أقصاه إلى أقصاه بكل أريحية، يغادرون منازلهم وقتما يشاؤون، ويسافرون إلى أي مكانٍ يرغبون دون حسيبٍ أو رقيبٍ، فلا أحد كائنًا من كان يستطيع أن يقيد حريتهم أو يحد من حركتهم في التنقل، هم أحرارًا في عيش حياتهم بالطريقة التي تناسبهم طالما أنهم لم يخالفوا نصًا شرعيًا أو عرفًا اجتماعيًا ..

ثم فجأة بين ليلةٍ وضحاها أصبح الناس في العالم أجمع أسرى لا يملكون حرية التنقل، فباتت حركتهم محدودة، وتنقلهم محصور ..

أصبح الناس يعيشون في سجنٍ كبير خروجك من المنزل لم يعد كمان كان، قد تخرج ويتم معاقبتك ومخالفتك، لكنك داخل بيتك لك الحرية الكاملة في استخدام هاتفك المحمول، والجلوس في غرفةٍ واسعة، والأكل من أي صنفٍ يعجبك، والحديث مع عائلتك، والتواصل مع أصدقائك، ومتابعة محطات التلفزة التي تستهويك، والخروج إلى حديقة بيتك، وممارسة الرياضة التي تناسبك، ولا أحد يحقق معك أو يمسك بالسياط كي يعذبك، ومع هذا كله تتأفف من الحياة، تشعر كأنها ضاقت عليك، تتسخط تارةً وتواسي نفسك تارةً أخرى، تحاول الانتحار، وتنتظر الفرج لإنهاء الحظر وزوال الفايروس، وعودة الحياة إلى عهدها السابق، كل يومٍ يمر تظنه كألف سنةٍ أو يزيد، وكل ساعةٍ تمضي تشعر كأنها شهور أو أكثر، تحسب يومك بالثانية، تريد أن تدفع كل ما تملك مقابل أن تنتهي جائحة كورونا ل، لقد مليت وكليت وأصابك الضجر وربما اختنقت ..

وعلى الجهة الأخرى ورغم النعيم الذي لا زلت تنعم فيه شعرت أن الدنيا ضاقت في وجهك، هل فكرت يومًا بأولئك القابعين في سجون الاحتلال الصهيوني منذ عقود؟ بعضهم يعيش في عزلٍ انفرادي لا يرى أحد ولا أحد يراه، منفصل تمامًا عن الواقع، وبعضهم يعيش في أسوار السجن مع مجموعة أخرى من رفاقه لا يرون أحدًا سوى وجوه بعضهم، الزيارات عن بعضهم إما ممنوعة أو محدودة، لكنهم في المجمل يعيشون تحت رحمة السجّان المتغطرس الذي لا يخاف إلا ولا ذمة، وفي آخر الليل قد يفتح الحارس بوابة السجن لينادي على أحدهم للتحقيق معه في قضيةٍ ما، ثم بعد التحقيق وربما أثناءه يتم تعذيبه شتى أصناف العذاب، ثم يعيدوه إلى زنزانته وربما يعزلوه عن محيطه، الأسرى في سجون الاحتلال حالهم يصعب وصفه، وظروفهم أسوأ مما نتخيل، وأكثر تعقيدًا مما نتصور، لو بقينا دهورًا وشهورًا أن نحاكيه للعالم لن نستطيع أن نوصله.

فمن عايش تجربة الأسر يعرف واقع الأسرى، ومع ذلك لا يتأففون ولا يساومون أو يستلمون أو حتى ينحنون لعدوهم، يقفون في وجهه بكل جرأةٍ، ويقامون سياطه بكل بسالةٍ، بعضهم محكوم بعشرين مؤبد ولم ييأسوا، وآخرين محكوم عليهم بثلاث مؤبدات ولم يتنازلوا، وآخرين بعشرةٍ أعوامٍ تتفاوت محكومياتهم، لكنهم جميعًا لم يخضعوا ويكأنهم جبلوا من نفس الطينة، طينة الكبرياء والعزة والشموخ، هل فكرت بهؤلاء المحرومين من رؤية الشمس منذ عقود، والاتصال بأهاليهم، والتواصل مع أصدقائهم وأقربائهم، هل فكرت بهم وهم يسحبون على وجوههم إلى غرف التحقيق، والكلاب البوليسية تنهش أجسادهم، والوحوش البشرية تحاول أن تغتال حلاوة روحهم.

هل أحسست بهم؟ هل تخيلت شعورهم؟ هل فكرت بهم؟ هل قدرت حجم النعمة التي تعيش بها مقارنة مع حجم المعاناة التي يعيشها بها الأسرى؟ هل تخيلت الضغوطات التي تمارس عليهم؟ شهرين لم تتحمل التعايش مع جائحة الكورونا، وتكركبت حياتك، وتخربطت أيامك، وتشتت أفكارك، بينما يعيش الأسرى منذ عقود وهم ثابتين على تحقيق هدفهم دون أن يتأففوا أو يتراجعوا .. كلما ضاقت بك الحياة، واشتدت أزمتها عليك تذكر أن ما تمر به لا يساوي شيئًا مما يمر به الأسرى يوميًا.. هذه فرصة بأن تتذكر الأسرى بأن تذكر أهلك ومجتمعك وأصدقائك ومن حولك بقضية الأسرى، هذه فرصة ذهبية كي تقتطع من مالك وتعطي أبناء الأسرى، هذه فرصةٌ ذهبية لا تعوض بأن تدعو للأسرى أن يخلصهم الله من أسرهم، هذه فرصة لتعرف أن الأسر ليس مجرد كلمة تقال وتنسى بل هي موت بطيء، وتعذيب متواصل، وتحقيق دائم، الشهيد يموت مرة واحدة بينما يموت الأسير في اليوم مئات المرات.. أن تكون أسيرًا معناه أن تقاوم المحتل في كل ثانية تقضيها خلف جدران الزنزانة، الأسير يقاوم ولا يساوم حتى آخر لحظة في حياته، والأسرى ينتصرون على المحتل بإصرارهم وإرادتهم.

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

‫2 تعليقات

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى