
بقلم : قتيبة قاسم
لم يغب حضور الأسرى وقضيتهم يوماً من كل تفاصيل الأحداث الملتهبة في المنطقة، ويزداد الضغط ورقعة الاعتداء عليهم كلما ضاق الحال بمسؤول صهيوني ليظهر في لحظةٍ كعنتر زمانه، باعتبارهم الطرف الأكثر ضعفاً في المعادلة، والطرف الذي يتحقق من خلاله مساومة باقي الأطراف في اللعبة السياسية على الساحة المحلية، فتلويحٌ هنا بدعم الإرهاب وتلويح هناك بربط مصيرهم بمصير جنود الاحتلال المختطفين في غزة، ويقع الأسرى أيضاً فوق ذلك ضحايا الدعاية الانتخابية الصهيونية كلما جد جديد،
وينتفش وزراء الاحتلال كلما هاجموا وقمعوا الأسرى العزل في زنازينهم بتحقيق انتصارات وهمية مستمرة، إلا أن يصل الحال إلى انصياع مؤسسات فلسطينية كي تكون جزءاً من معادلة تصفية قضيتهم والمراوغة فيها فهذا الحادث الخطير الذي يضع رأس الثوابت الوطنية على المحك. على أبواب حالة جديدة تنذر بما هو أسوأ فقد قبل طرف فلسطيني بأن يكون هو الآخر أداة ضغط تفتك بالأسرى وذويهم، بعد انصياع البنوك ورضوخها لقرار ما يسمى بالحاكم الصهيوني المتعلق بإغلاق حسابات الأسرى ووقف رواتبهم،
فيعلو صوتها على صوت الإجماع الذي بالكاد يكون وحيداً والذي يجعل من الأسرى علامات باسقات وفوق كل اعتبار، الأمر الذي يعيدنا إلى المربع الأول في أصل الحكاية المشينة والمهينة لتضحيات أبناء شعبنا حين استُبدلت وزارة الأسرى إلى هيئة وكان الحديث حينها عن شكلية الخطوة في الوقت الذي أثبتت الأيام أنها شكلت رضوخاً لسيل التهديدات الصهيونية وبداية التحول الذي لا يُعرف له نهاية، وقد رافقتها طيلة السنوات حملات قطع رواتب لأسباب سياسية مختلفة على الصعيد المحلي، وكأنها مهّدت الطريق لما وصلنا إليه. وإنه لا يمكن حين الحديث عن قضية الأسرى أن نستثني من ذلك السياق مسلسل قطع الرواتب المستمر والذي طال أسرى يقبعون داخل السجن وأسرى محررين ونواب الشعب الفلسطيني الذين أكلت السجون من أعمارهم وأجسادهم، وثلة من الأسرى المحررين ممن قضوا عشرات السنوات وهم يحرمون اليوم من حقوقهم أسوة بإخوانهم، ما يشي بحالة من الاستفراد في قضايا الأسرى التي كانت خطاً أحمر فبدأت بلون من الألوان في مقدمةٍ لأن يكون القادم استفراد بقضية الأسرى بمجملها، فالصمت إزاء جريمة تحويل الوزارة إلى هيئة ووقف دفع غرامات الأسرى وخفض مستوى الاهتمام التدريجي كلها مقدمات لأن نشهد مخاض ولادة صعب يجعل من المولود القادم مشوّهاً منفصلاً عن واقع كانت تختفي فيه كل الخلافات إذا ما وصل الأمر إلى الأسرى وكرامتهم. إن المؤلم في تلك المراكمة لما تشهده قضية الأسرى من تنازلات يراد بها إفراغ مكانة الأسرى من صدارتها لدى المجتمع المحلي تمهيداً لتسهيل الانقضاض عليها من كل اتجاه، حين ترى انسياق البنوك المفترض أن تكون فلسطينية بأجندتها وانتمائها للهروب من دفع بعض تكاليف الحالة الوطنية، ورضوخها لقرارات الاحتلال بحق الأسرى ولا تتفاجأ حين ترى مستوى الخطاب الذي بررت فيه جمعية البنوك إجراءاتها وكيف تنصلت من ذكر الأسرى في بيانها واعتمدت بكل بجاحة لفظة الجيش الإسرائيلي وروايته لتعفي نفسها من المسؤولية الوطنية لتدرك أن خطر هذه المؤسسات المنتفعة أكثر بكثير من ذلك الخطر المباشر الذي يفشل المحتل في إلحاقه بالصامدين خلف القضبان وذويهم.
وينكشف ظهرنا مرة أخرى حين تجد فلسطينيين اثنين يختلفان حول قضية جوهرية تمس ثوابتهم بالتاريخ والمستقبل، حين لا يكون المطلوب نصرة أولئك الذين قدموا سنيّ أعمارهم لأجل الوطن وأبنائه بل أن تكفّ أيدي الظلمة عنهم وعن ما يعتاش منه ذويهم وهو أضعف الإيمان. لقد صدر القرار الصهيوني المتعلق بمصادرة ممتلكات وأموال الأسرى منذ ثلاثة أشهر(في التاسع من شباط) وأُبلغت به البنوك حينها قبل أن تدخل حيز التنفيذ الآن وإن صمتها طوال تلك المدة مع صمت سلطة النقد يثير الريبة والشك حول تلك المواقف الباهتة، والجدال الدائر بما يتعلق بتشكيل اللجان الفنية والردح الاعلامي الآن لا يلغي إخفاق وفشل كلاهما في معالجة الأمر بما يتلاءم ومكانة الأسرى الوطنية وقضيتهم في أولويات الاهتمام المحلي الداخلي، بل وإن البنوك في طور ارتباطاتها وعلاقاتها أضحت ظهرنا المكشوف بعد أن مارست في الخفاء تعاونها المشترك الصادم مع ما يتنافى وثوابتنا الوطنية وأبرمت تحت الطاولة وفوقها اتفاقياتها التعاونية فيما يتعلق بآليات العمل والتي تضمنت العمل بقائمة “الإرهاب الإلكترونية” والتي يتم من خلالها تغذية البنك بشكل متواتر بتلك الأسماء الملاحقة والتي يتصدرها الأسرى والمحررون ومن يعتبرهم الاحتلال ب”المخربين”، وهذا ما أسدل الستار عنه بعد الاتفاقية التي وقعت بين سلطة النقد والبنك المركزي “الإسرائيلي” عام 2018، ويقضي باتباع آليّة جديدة لإدارة المعاملات المصرفيّة الفلسطينيّة مع البنوك الإسرائيليّة. لقد كانت الشواهد كثيرة وكيف أغلق البنك العربي حسابات أسرى ومحررين وكيف رفض فتح حسابات لآخرين بحجج واهية وكانت توضح مدى رضوخ البنوك لتفاهماتها مع الاحتلال واجراءاته، ولم يكن ليتوقف الأمر عند إبلاغ قفل الحسابات بل وكانت مراراً ما تبلغ الكثيرين أن هذه الحسابات حتى في وضعها العام لا تعدو كونها حسابات للاستفادة منها بحدها الأدنى فقط وأنهم لا يستطيعون الاستفادة من باقي الخدمات كما بقية العملاء والمستخدمين وكما ورد على لسان عدد من المحررين وذوي الأسرى الذين يعانون مع سياسات تلك البنوك واجراءاتها بحقهم، وما تبادر إلى ذهن هذه البنوك بأن كريم يونس ونائل البرغوثي وعشرات غيرهم يقبعون في السجن قبل تأسيس جمعية البنوك وقبل كثير من البنوك وقبل سلطة النقد وغيرها من المؤسسات التي تعتاش من تضحيات الأسرى وأعمارهم. إن الحملة التي يتعرض لها الأسرى ما زالت مستمرة في وقف حسابات الأسرى وإغلاقها رغم إعلان رئيس الوزراء الفلسطيني عن اتفاق يقضي بتجميد تلك القرارات، حيث لا يزال يواجه العديد من ذوي الأسرى والمحررين حتى كتابة هذه الكلمات رفض عدد من البنوك فتح حساباتهم أو إعادة فتح الحسابات التي أغلقت مؤخراً، مما يضع البنوك في دائرة الاتهام حول مرجعياتها، وما يضع الأسرى أيضاً ومجدداً في خانة الحلقة الأضعف التي لا تجد لها مكاناً عند رأس المال الجبان. إن ملاحقة الأسرى ورواتبهم لا ينفصل عما يرسم له الاحتلال من مخططات يستبقها بمجموعة من الاجراءات، فالقرار الصهيوني الجديد كان ضمن حزمة قرارات أصدرها ما يسمى بالحاكم العسكري في شهر شباط المنصرم، على أن تدخل حيز التنفيذ خلال ثلاثة أشهر من تاريخه، مجموعة من الإجراءات الجديدة والعقوبات وتشديدات مضاعفة تنذر باقتراب الكيان من إجراءات الضم وما قد يصاحب ذلك من هبة جماهيرية يتجهز لها الاحتلال بعصا قوانينه التي ستحارب بقوة أي مشروع للمواجهة، ولا بد من عودة للوراء كي ندرك كم هي طويلة يد الاحتلال وأن السيناريوهات القادمة في محاربة الأسرى لا تتوقف عند عزلهم وملاحقتهم وهم عزّل داخل زنازينهم، ففي العام 2004 كان الاحتلال قد اقتحم البنك العربي وصادر منه ما يقرب من ١٠ مليون دولار من مئات الحسابات التي تخص الأسرى والشهداء والجمعيات الخيرية، في قرصنة في وضح النهار ضارباً بعرض الحائط كل الأعراف الدولية وحتى الاتفاقات مع سلطة النقد التي لا يلقي لها بالاً. مؤسف أن يلتئم شتات الاحتلال ومؤسساته ومكوناته لرصد حقوقنا على أنها إرهاب وتصدّر للعالم بيانات تظهر فيها كم يتقاضى هذا الأسير وذاك، بينما تصمت مؤسساتنا المسماة بالوطنية عن إبراز تلك الجوانب الإنسانية المغيّبة عن أنظار العالم، وعن الحقائق والحقوق لأسير يطوي عامه الأربعين خلف القضبان دون أن يحمل همّ قضيته أحد، ماذا يعني أن تلاحق الأسير حتى بعد أن قيّدته في زنزانة وألقيت به بعيداً عن أهله وذويه، وبعيداً من أن يكون لهم المعيل، ثم تلاحق ذويه حين يأتيهم بعض الفتات على شكل معونات تسمى براتب بالكاد يكفيهم مؤنتهم ويسدّ حاجتهم وقد فقدوا ما فقدوا وحرموا ما حرموا، أليس في ذلك نظرة إنسانية بحتة وورقة تضاف إلى أوراق السياسي الفلسطيني إذا ما أراد فعلاً أن يكون لاعباً في ميدان البحث عن الحق الفلسطيني أمام العالم، تدعمه في ذلك اتفاقية جنيف الرابعة الموقعة عام1949 في المادة الثامنة والتسعين والتي نصّت على جواز تلقي المعتقلين إعانات من الدولة التي يكونون من رعاياها أو من الدول الحامية أو من أي هيئة تساعدهم …، أم أن القضية تحتاج إلى لجنة جديدة لتبحث هي الأخرى في الأزمة وإيجاد مسوغات لتضييعها وسط زحام اللجان والأحداث. ولعل السؤال الأهم، هل سيظل ظهر الأسرى مكشوفاً، ليتحول ذويهم إلى متسولين على عتبات المؤسسات والوزارات أو الطرقات، وهل سيسفر النقاش المحتدم “ظاهراً” بين سلطة النقد والبنوك عن إنصاف الأسرى وإعطائهم كامل حقوقهم؟ لعل الأمر لم ينته بعد وصلف البنوك ما زال قائماً وأية حلول أخرى خارج نطاق البنوك تنتقل بنا إلى مرحلة جديدة من مراحل السقوط والنهاية لملف كان الجميع يعلن صباح مساء أنه على سلّم الأولويات والاهتمام.