
بقلم :أحمد عبد اللطيف داود
مدير رابطة الكتّاب والأدباء الفلسطينيّين
“أرهقتني الأيّام” كلمات خطّتها هي في دفتر مذكّراتها الذي لا يعرف عنه أحد من أولادها شيئا، هو صندوق أسرارها وكنز عواطفها الدفينة التي اختنقت مع مرور الأيّام ونضبت، الكلّ بحاجة لحنانها ورعايتها وهي وحيدة لا يحنو عليها أحد إلاّ ربّها في قيام اللّيل الذي لم تتركه حتّى في مرضها، تدعو الله فيه أن يفكّ أسر زوجها المحكوم ثلاثين عاما في سجون الاحتلال بعد اعتقاله في اليوم التّالي لزفافهما، وشاء الله أن يكون نتاج تلك اللّيلة الواحدة والوحيدة طفلا سمته ثائر لأنّها كانت مؤمنة بالثّورة كما علّمها وأسقاها زوجها وحبيبها، وكما علّمها والدها الشّهيد أيضا كلّ معاني الإباء والتّضحية.
هي كما كلّ أمّ تمضي جلّ وقتها في رعاية أبنائها وتربيتهم وتوفير احتياجاتهم، لكن من غير سند، فزوجها في الأسر وأمها توفّيت ووالدها شهيد وعائلتها مشتّتة في بقاع الأرض.
كبر الطفل وكبر همّه وأصبح شابّا يافعا، لكنّه لم يكن شابّا مطيعا مسالما بل كان صعب المِراس، رفقاؤه رفقاء السّوء مدخّن يصطنع المشاكل لا يكاد يمرّ يوم من غير شكوى عليه من جار لهم أو صاحب محلّ أو بائع متجوّل أو طفل صغير، حاولت بكلّ الطرق والوسائل أن تصلح حاله لكن من غير جدوى.
تحمّلت ألسنة النّاس القريب قبل الغريب وخاصّة أهل زوجها الذين لم يدّخروا كلامهم بل وجّهوا لها سهاما مؤلمة وكلمات جارحة مضمونها جملة من كلمتين بين قوسين “ترباية مرا”.
تحمّلت كلّ شيء، مرّت السّنوات وحملت هي بعد إصرار زوجها الذي ما زال يقضي حكمه الذي أصدرته محاكم الاحتلال عن طريق النّطفة التي هرّبت لها.
لكنّها كانت على يقين أنّ حكم الله هو النّافذ وأنّ زوجها سيخرج مع أنّ أهلها كانوا من الرّافضين لقراراها بأن تكمل زواجها منه، فنصحوها بأن تنفصل عنه وأن تتزوّج، فهي ما زالت صغيرة ابنة السّبعة عشر عاما، لكنّها كانت مصرّة، فقاطعها إخوتها الشّباب ولم يبق لها في هذه الدّنيا إلاّ رفيقة دربها وشقيقتها الصّغرى، لكنّها كانت في بلد عربيّ شقيق، فكانتا دائمتي التّواصل على الهاتف والفيس بوك، وكانت شقيقتها من تكسر عليها محنتها وتحاول رفع معنويّاتها.
أنجبت هي ورزقت بتوأم بنات، ففرحت وحزنت في نفس الوقت، فقد كان أملها أن ينصلح حال ابنها ثائر ليكون بمثابة الأخ والأب لشقيقتيه التّوأم، لكنّه كان يزداد سوءا يوما بعد يوم حتّى رحل مغادرا البيت بسبب كثرة خلافاته معها وانقطعت أخباره حتّى عرفت بالصّدفة أنّه سافر.
أكملت المسيرة وتحمّلت الأعباء وأصبح دعاؤها الدّائم والوحيد “اللّهم أصلح حال ولدي وردّه إليّ ردّا جميلا”، فرغم كلّ هذا كانت قد رسمت صورة جميلة عن ابنها في مخيّلة أبيه وأنّه قد سافر برضاها ليبني نفسه وأنّها راضية عنه، وكانت دائما تحدّث نفسها أنّ زوجها في سجنه يكفيه ما هو فيه وكانت تأمل أن الأيّام كفيلة بتغيير ولدها وأنّ الله قادر على كل شيء.
كبرت الطّفلتان وكلّما كبرتا ازدادت المسؤوليّة لكنها نجحت معهما، فقد تخرّجتا من الثانوية العامة بمعدل عال ودخلتا كلّية الطّب وأدخلتا البهجة لقلبها المتعب.
كبرت في السّنّ وكبر معها دفتر الذّكريات الممتلئ بالهموم وقليل من الفرح، فكانت كلّما ابتأست أغلقت غرفتها وأخرجت دفترها وشرعت في الكتابة، سطّرت كلّ آيات الصّمود ومعارك التّحدي التي خاضتها وخاصّة تربية أبنائها وكان لثائر النّصيب الأكبر .
وفي يوم من الأيّام جاءت البشريات فقد اقترب موعد خروج زوجها من الأسر ولم يتبقى إلاّ أسابيع، فبدأت بالتّحضيرات وقامت بتجهيز كلّ شيء، نظرت إلى نفسها في المرآة، لقد بدا الشّيب يغزو شعرها والتّجاعيد تملأ وجهها، لقد كبرت قبل أوانها، فقد أثقلتها الهموم وأوجعتها ليالي الوحدة ولم يكن لها من صديق إلاّ دفتر مذكّراتها، قرّرت أن تفتح صفحة جديدة فيه كما قرّرت أن تصبغ شعرها وتشتري ملابس جديدة، وشرعت في كتابة أحلامها التي عاشت معها ثلاثين عاما طوال فترة سجن زوجها وكانت هي أيضا أسيرة دفتر الذّكريات، وما إن بدأت بالكتابة حتّى بدأت بعض الوساوس تتوارد إلى ذهنها هل من الممكن أن يتزوج بأخرى يبدأ معها من جديد؟ وهل من الممكن أن ينسى كلّ ما فعلته؟ وهل من الممكن أن يلقي عليها باللّوم بسبب ثائر؟ وهل من الممكن… حتّى قطع على وساوسها رنين هاتفها الجوّال، ردّت لتسمع صوت ثائر الذي دغدغ مسامعها معلنا لها أنّه سوف يعود إلى أرض الوطن وأنّه قد تغيّر وأنّه على علم بموعد خروج أبيه، لكن المفاجأة هي أنّ ثائر لن يعود خالي الوفاض، بل سيكون برفقته زوجته وولديه ليستقبل أباه ويعيد الحياة لقلب أمّه الذي أضناه الألم والفراق.