
بقلم : أ. سوزان عويوي
كانت تلك الخطوات هي الأصعب، وهي الخطوات المتثاقلة التي كنت أسير بها إلى غرفة المحقّقين في الطّابق الثّاني أو الثّالث من مركز تحقيق عسقلان معقّد البناء، بدأ أحد المحقّقين حديثه لطيفا بشكل مبالغ فيه وعلى مدار أكثر من ساعتين كان الأمر لا يتعدّى معلومات شخصيّة عادية معلّلا وجوده بأن مسؤول ملفّ التّحقيق معي مشغول في مهمّة، وبعدها بدأت رحلة العذاب الحقيقية، فأنا ما زلت لا أستوعب فكرة اقتلاعي من بيتي وعائلتي في شهر رمضان الفضيل من جهة، ومن جهة ثانية وحشة المكان والأشخاص وكلّ شيء هناك ثقيل على النّفس، أيّام طويلة قضيتها على كرسي التّحقيق في جلسات متواصلة كانت تستمرّ لأكثر من 16 ساعة أحيانا، وفي حدّها الأدنى كانت 10 ساعات لا يقطعها إلاّ دقائق للصّلاة، كان الضّغط النّفسي فوق التّحمّل، كانت جلافة المحقّقين تتجلّى في تلك السّاعات الطّويلات التي كنت أظنّها أبديّة لن تنتهي، كانت جولات التّحقيق ما بين جذب ورخو، أصوات هادئة ثمّ جولات من الصّراخ والتّهديد والوعيد، والكثير الكثير من الأكاذيب والكلمات النّابية والتّشبيهات الحقيرة والألفاط البذيئة.
حتى ذلك الوقت الذي كان يسمح لي فيه بالدّخول إلى الزّنزانة كان السّجّانون يتعمّدون إصدار أصوات مزعجة مستمرّة لمنعي من النّوم، كان المشهد الأوّل للزّنزانة الرّماديّة مرعبا، فما كانت سوى صندوق إسمنتي لا يتعدّى طوله ثلاثة أمتار وعرضه مترين، في زاويته مكان أطلقوا عليه زورا اسم “مرحاض”، ومغسلة صدئة بها ثقب صغير يخرج منه ماء برائحة كريهة تعافها النّفس، الأغطية كحال الزّنزانة قذرة بملمس خشن ورائحة نتنة، أمّا الجدران فعليها نتوءات حادّة كالدّبابيس تحول بيني وبين الاستناد للحائط، وبالطّبع لا وسائد في المكان إلاّ ثني بعض الأغطية إن كان بها فائض، فبرودة المكان لا تحتمل علما بأنّ اعتقالي كان في أيّام الصّيف الحارقة تحديدا في شهر حزيران. وما بين مكتب التّحقيق والزّنزانة أمشي مغمضة العينين بقماشة سوداء ذات رائحة عفنة تحجب الرّؤية بالمطلق، تقودني سجّانة أو فتاة من المخابرات من وإلى مكاتب التّحقيق.
في اليوم الأوّل للاعتقال وحينما أنزلوني للزّنزانة لأتناول طعام الإفطار -حيث كان شهر رمضان- تجلّت أمامي صورة عائلتي وأبنائي وتحديدا أصغرهم، حالة غريبة بمشاعر مختلطة لا توصف انتابتني في تلك اللّحظة فلم أستطع تناول أيّ شيء من الطّعام الذي لا يشبه الطّعام إلاّ بالاسم، فهو مكوّنات سيّئة غير متجانسة مطهوّة بطريقة رديئة برائحة مقرفة تقدّم في صينيّة بلاستيكيّة أكل عليها الزّمن وشرب إضافة لوساختها الواضحة، شهر كامل من التّحقيق لم تمتد يدي إلى أيّ طعام، وفي كل مرّة كنت أطرق باب الزّنزانة طويلا جدّا حتّى يأتي السّجّان وأطلب منه علبة لبن رائب سعتها ملعقتان فقط آكلها كونها مغلقة وأظنّها كانت أنظف شيء في المكان، وبذلك فقدت من وزني في تلك الفترة أكثر من 11 كيلو غرام دفعة واحدة.
لم تكن ظروف التّحقيق وحدها من تكالبت عليّ، بل خانني جسدي أيضا فثار غاضبا معلنا ثورة الكثير من الأوجاع، كالكلى والمفاصل والمعدة والقولون العصبي، كانت هجمة شرسة استعدت زيارتي لعيادة السّجن كلّ يوم تقريبا وربّما في اليوم أكثر من مرّة، أذهب للعيادة مغمضة العينين تقودني سجّانة، أمّا الطّبيب فلا يتعدّى الفحص عنده أن أصف له ألمي، ويصف الدوّاء بكلّ ثقة وبلا أدنى شكّ في الخطأ، فمهما كانت الأوجاع فالعلاج عنده لا يتعدّى المسكّنات وبعض الأدوية التي باتت محظورة التداول في المجتمع الصهيوني كذلك الذي أعطوني إيّاه لعلاج مشكلة الكلى.
بعد تسعة أيّام على اعتقالي انتهى شهر رمضان وجاء العيد الأصعب والأقسى في حياتي كلّها، عيد في عتمة الزّنازين بلا أهل ولا أبناء، كانت ليلة جمعة وبالتالي المحقّقون غير موجودون، جادلت السّجّانة لوقت طويل حتّى تعطيني معلومة بأنّ الجمعة هي متمّم شهر رمضان وأنّها أوّل أيّام العيد لأعرف إن كنت سأصوم أو لا، بعد فترة طويلة فتحت هاتفها وأجرت بحثا سريعا كانت نتيجته أنّ العيد غدا الجمعة، لا أستطيع وصف تلك اللّحظات، فكيف سيأتي العيد وأنا هنا؟ وكيف ستمرّ هذه السّاعات؟ أين أبنائي الآن وماذا يفعلون؟ هل اشتروا ملابس العيد ومن اشتراها لهم؟ من سيوقظهم لصلاة الفجر والعيد؟ من سيعطّرهم ويتمم هندامهم؟ ، وأنا .. من سيعايدني ؟؟ من سيفتح باب بيتي مستقبلا أبي وإخوتي وأرحامي ؟ ألف ألف سؤال قفز إلى ذهني في تلك اللّحظة..
لم أر الشّمس طوال تلك الفترة إلاّ عند نقلي للمحاكم في محكمة عوفر العسكريّة القريبة من رام الله، في تلك الرحلة المقيتة فقط كنت أرى الشمس والحياة، أمّا وسيلة النّقل فهي “البوسطة” ذلك القبر المتحرّك