
بقلم : بهية النتشة
في السجن هناك مدير مالي، بروفيسور جامعي، وسياسي محنك..
في السجن هامات عالية، علية القوم وأشرافهم، وهناك ساعات طوال، ملايين الساعات حكم عليهم بأن يعيشوها في جدران صماء رمادية اللون وأبراش مهترئة ملأها العث الذي أكل من أجسادهم مأكلا.
لا أريد أن أتكلم عن الساعات التي يمضيها الأسير في الجلسات والدورات والقراءة أو الكتابة، لن أتكلم عن حفظ القرآن أو الرياضة أو الطبخ، فكل تلك الساعات يستغلها الأسرى ليمضي النهار تلو النهار، فينقص من المؤبد يوم جديد!
بل إن حديثي عن قدراتهم الجبارة في إدارة عقولهم بجبروت يحير الألباب، كيف لهم أن يصيّروا عقولهم فيحجموها بحجم واقعهم الجديد، أريد أن أتحدث عن ساعات الفراغ الطوال التي تمضي دون تكنولوجيا ولا اجتماعيات ولا عصر سرعة.
ذاك الأسير الذي كان ذا منصب وعمل لا يفرغ فيه ثانية لنفسه، بل ويسترق على عجل وقتاً زهيداً ليكلم فيه زوجته ليخبرها أنه قادم للغداء أو ربما ينسى ذلك في زمن السرعة الذي يعيشه فيصل المنزل دون اتصال. أصبح اليوم يمضي وقته في تزيين برشه الذي يكرهه ويعلم أنه لن يبقى فيه، فلو أخبرته وهو في الخارج أن عليه تزيين سريره في المنزل لضحك عليك، ولكنه يمضي الساعات يخيط الملفات التي دخلت له بعد ألف حيلة وحيلة على السجان فيتفنن في الحبكات والخياطة، وهو الذي لم يفكر يوماً في الخارج أن يمسك إبرة وخيطاً، ثم يخبر أهله عبر اتصال أو خلال ساعات الزيارة عن جمال برشه وإتقانه لتنسيق الألوان، حتى أصبح يتمتع بخصوصية مريحة إذا أغلق تلك الستارة التي حاكها بيده ونسقها مع وسادته وسريره، فخورا بصنع يده، تراه لا يعطي سعادته لأحد.
وسيكلمك بحماس عن إحضاره لشريط كاسيت قديم واستخرج ما فيه من أشرطة سوداء لينسق فيها خزانته الخاصة والتي تتكون من صناديق خضار بلاستيكية، لتصبح هذه الخيوط الراقصة مع هواء المروحة -التي تضخ الهواء الساخن في الحرِّ- أكثر جمالاً في عينيه، فيخبرك كم كان مبدعاً لدرجة أن كل من في السجن جاءوا ليطالعوا ابتكاره الجديد…
أم كيف له أن يجلس ست ساعات يكتب اسم محبوبته على الصابون، ويعتني بحرفته ويطور نفسه فيها وكأنها ستعود عليه بالثروة التي تجعله مليونيرا!
قد تجلس لتفكر في حالهم، هل أصابهم مس من الجنون أم أن عقولهم قلصها السجن فغيرها؟.
ولكنك إذا تأملت الحال وتخليت أنك حبيس في منزلك بلا مقومات حياة مطلقاً، فإنك ستخلق حياة لك تصنعها بنفسك، ستتفن بإلهاء نفسك وإشغال عقلك بكل الطرق، ستحاول تزيين واقعك بكل ما أوتيت من قوة، مع أنك تعلم علم اليقين أن نفسك لو حدثتك بذلك وأنت خارج السجن وعلى رأس عملك لاستهجنت الفكرة ولفزعت من مجرد مرورها على خاطرك، ولكننا هنا كما أخبرتك في البداية أمام مدير في السعادة وبروفيسور في الأمل وسياسي محنك في إدارة الكرامة…
لو لم يتمكن الأسرى من التأقلم، والتماهي مع الواقع، لو لم يتمكنوا من التلون مع حيطان السجن الرمادية المحيطة بهم لأصابهم ذلك المس من الجنون حقاً ولتقلصت عقولهم يوماً بعد يوم، ولكنهم استطاعوا تطويع عقولهم وأرواحهم حسب المكان فعشقوا الحياة ولو باختراعات بسيطة تعيد لهم شعورهم بذاتهم وإبداعهم..
فهل سمعت عن ثلاجة الأسرى؟ إنها كرسي بلاستيكي محاط بمعطف ثقيل ليحفظ الحرارة في الداخل مع الكثير من زجاجات المياه المثلجة التي ستحيط بمأكولاتهم فتحفظها، أم أنك سمعت بمعمول الأسرى في العيد، الذي اخترعوه بما استطاعوا إليه من المكونات سبيلاً، حتى كنافة الخبز المطحون مع الجبنة الصفراء والكثير من القطر ليخدعوا به حواس لسانهم، أم أنك سمعت باشتياقهم للكبدة غير المتوفرة فاستبدلوها بالفطر مع البصل والبهارات وأقنعوا عقولهم وشعيرات التذوق التي يملكون زمام أمرها أنها كبدة…
في مدرسة السجن الكثير من الحياة، والكثير من الأمل، الكثير من الكرامة، والكثير من المدراء ودكاترة الجامعات والسياسين، في السجن الكثير من الفلسطينيين، ذلك الشعب الذي مهما طال به زمن القهر ازداد حرية ورفعة وعزة.
في مدرسة السجن الكثير ممن ينتظرون الفرج، ينتظرونه حق الانتظار بإعداد أنفسهم أيما إعداد فيكملون دراستهم ويسجلون في كل دورة يسمعون بها، منتظرين يوم عودتهم لزمن السرعة، ولأعمالهم العظيمة التي لا تشبه عظمة ما يقومون به داخل زنازين النور تلك.