
بقلم :أ. قتيبة قاسم
حين يغلق السجن بابه مرتين فإن انتظار الفرج عبادة، واستمطاره هي حكاية صبر يتمترس خلف حروفها كهلٌ ألقت به أمواج الحياة خلف الجدار ووراء أسلاك مبعثرة في صحراء النقب وقيد يلف معصم يده مرة ومرتين، وبطل هذه الحكاية رجل لا يتردد اسمه في الاعلام كثيراً ولكنه علم من أعلام الحركة الأسيرة وفصل من فصول حكاية الوطن المجروح التي تنثر تفاصيلها في الأرجاء معبّقة بعظيم التضحيات والفداء.
ولأنهم ليسوا أرقاماً في سجلات وبيانات تصدر هنا وهناك، كان لا بد من التفاتةٍ بين الفينة والأخرى إلى عوالم الأسرى عرفاناً بحجم تضحياتهم وعظيم صبرهم وجهادهم، وأسير هذه الحروف والسطور هو الشيخ عبد الرحمن حسن صلاح والذي يطرق أبواب السبعين من العمر، وسلسلة من حكايا الفخر والصبر والتضحية.
لم تكن السجون هي أولى محطات القهر في حياته لكنها أوثقت عليه وشدّت خناقها، فمنذ استشهاد نجله محمد عام 2003 وهو بعمر الورود كان السجن في تلك اللحظات يضيق عليه وأبوابه الفولاذية وكأنها تصعّد على قلبه مانعةً إياه من وداع نجله الذي قضى ووارى الثرى دون أن يطبع الوالد الأسير قبلةً على جبينه.
ومن سجن إلى آخر ومن محاكمة إلى أخرى ليصدر الاحتلال حكماً جائراً بخمس وعشرين عاماً، كانت الأيام طويلة جداً وتمر دقائقها وساعاتها بطيئةً جداً وهي تحمل بين طياتها قهراً متواصلاً يزداد يوماً بعد يوم، كان أبو محمد يعدّ سنوات حكمه البالغة خمس وعشرون عاماً ببصيصٍ من الأمل حين باغته الفرج عام 2011 بصفقة وفاء الأحرار، كانت الحرية الحلم الأسمى الذي يراود كل أسير، ولطالما رآه في منامه وفي يقظته، حتى تحقق وعانق السماء ورأى الشمس دونما أن يحجبها الجدار والقضبان ورأى القمر يداعب أفكاره التي ما ظنت لوهلة أن الحرية بعيدة المنال، لكن الحلم الذي بات حقيقةً لم يدم طويلاً، كانت الفرحة توشك أن تنتهي وأن يعود المرّ يسقي حياة الشيخ المريض الذي كانت الحرية له بداية الدواء.
كانت الحرية ذلك الحلم القصير الذي أيقظته بنادق المحتل وهي تطرق الباب بعد ثلاثة أعوام في رحابها تحيل سكون الليل إلى ضجيجٍ يؤرّق أبا محمد وذويه، كانت سريعة كلمح البصر، لم تعوّض بعد حرمان عشرة أعوام عجافٍ سابقات، عادت إلى ذاكرته التي كانت ستمحو مرارة ذلك الوقت الذي قضاه بعيداً عن ذويه، لم يعانق ولم يودّع نجله الشهيد، لم يشارك أبناءه أفراحهم ولا حتى بمواليدهم الذين أبصروا النور دون حضور الجد الذي كان ينتظر مثل هذه اللحظات بفارغ الصبر، وانتكس الفرح مرةً أخرى، وعادت السلاسل والقيود والبوسطة والتفتيش والعدد وانتظار زيارات الأهل والمحاكمات وكل شيء إلى سابق عهده.
واليوم، محدودب الظهر يتعكز على أمله كلما سرى وأشرقت شمسٌ وهو خلف القضبان، وعيناه بالكاد تبصران، فواحدة أصبح لا يرى بها مطلقاً والأخرى تُرهقها الأبواب الزرقاء الموصدة ومدى النظر الذي لا يتجاوز زنازين الأسرى وغرفهم وساحات الأقسام التي يسمح له بالمشي فيها لبضعة ساعات في النهار في أفقٍ ضيقٍ محدود، أما أجهزة التشويش التي تحيط غرف الأسرى وأقسامهم فإنها ترسل هي الأخرى بموجات تقض مضاجع الأسرى، وتسبب أوجاعاً في الرأس متكررة وصداع لا يطاق بات يعاني منها إضافة إلى آلام تُذهب عنه الراحة، ومعها أمراض السكري والضغط الذي يلازمه منذ فترة طويلة.
أبو محمد، ورغم كل هذه القتامة في حياته التي تطوي في كل يوم صفحات من الألم والوجع فإنه قوّام لليل صوام في نهاره، بشوش الوجه باسم الثغر على الدوام، لا تفارقه النكتة اللطيفة والفعل الظريف، يترك أطيب الأثر في كل من يلقاه داخل قلاع الأسر، يزرع الفرحة في كل من يجالسه ويخالطه، قلبٌ عامرٌ بالإيمان والثبات والأمل، فهو اليوم يحمل أملاً أكبر من كل الذي مضى، وأكبر من ستة عشر عاماً قضاها في الأسر ولا يزال يكابد المرّ ويتجرع مرارة الظلم، يكبر كلما تنادت الحرية وهبّت رياحها، فأرض جنين القسام لا زالت تنتظر اليوم الموعود ليعود الشيخ إلى أحضان بلده وعائلته وأحبابه.