
بقلم : ريهام ابو عياش
خلف تلك الأسوار الآلاف من الحكايا التي تروى وآلاف آلاف من المكائد التي تحاك ؛ وكم نسج العدو تعسفا من جبروته خططا ورفع مشانق.. حصدت عشرات الأرواح من أسرى كانت قضيتهم الحرية ولا سواها ينشدون. بين تلك الزنازين كنت أنا عشت قمت .. أخذت عهدي ثأرا، وأقسم بشرفه المدنس لي بذل ما حييت ؛ واجهت سجاني وجها لوجه أكسر أنفته تلك بكل مرة يجبرني فيها على الاستسلام.. حيث أنت هناك تجابه العدو وحدك ؛ وإن بدا غير ذلك .. فالمزلق بعد خطوة .. فبعد أن تم عزلي وتسع اخوات أخريات في سجن الرملة وأيلون لشهرين والتهمة حفر خندق ومحاولة الهروب من السجن_ محاولة هروب! ..
كانت ايامهما طويلة جدا كئيبة ؛ ففي الرملة بقينا شهرا كاملا في قسم للمدنيات المجرمات ؛ حيث تمارس كل أنواع الشذوذ الذي يعجز العقل عن تصوره .. فالغرفة التي كانت أمامنا لثلة بتهمة الدعارة والحشيش .. سباب وصياح طوال النهار وضحك وهستيريا بشكل مفرط طوال الليل.. ومحاولات الانتحار المتكررة .. هذه غرفة من تسع غرف؛ وبين تلك الظروف كان لابد لنا من إتخاذ خطوة مقابلة ؛ فقمنا بالاعداد والاستعداد للإضراب عن الطعام ؛. بينما كان رمضان قد هلً ببركاته ما خفف وطأة الأمر علينا. ولما علمت الإدارة بذلك أبدت لا مبالاة مصطنعة حتى التراجع ؛ وفي ظل إصرارنا الذي امتد إلى عدم الخروج للفورة ؛ كشر العدو عن أنيابه فاقتحم الغرفة بقوة كبيرة ترأستها ضابطة الأمن آنذاك التي وقفت تريد ضرب إحدى الأخوات.. فوقفت في وجهها فما كان منها إلا أن ضربتني وقيدتني لاعاقب بزنزانة انفرادية ليوم ومنع للزيارة والكانتينة كالمعتاد . استمر إضرابنا سبعة عشر يوما .. وفي اليوم الثامن عشر كان السجان قد اذعن للمطالب ونزل؛ وبعد شهر تم عزلنا إلى ايلون؛ العزل الذي به يربي العدو المجرمين كما يزعم ..به أيضا مكثنا شهرا يوما بألف وكل من دخل ايلون يعلم أنه قبر للأحياء أعد .. بصورة لا تلقي إلا بظلال الموت والمقابر وكل ما تأنفه طبيعة الحي.. فالكاميرات بكل مكان والأسرة على هيئة قبور ؛ لا شبابيك إلا واحد لا تكاد تطاله لعلوه؛ ظلام دامس يتخلله ضوء الليزر الاحمر ، والحشرات بالمئات فكل حملات التنظيف القاسية لم تجد معها شيئا؛ وكأنها تمردت على كل شيء .. فأنت إذا شئت تأكل ستكون هي بداخل كل أكلة تأكلها؛ مجبور مأسور بلا حيلة: لا ترى شجرا أو بشرا إنما أسوار وحيطان ؛ حتى لحظة الفورة تخرج لساحة مغلقة صغيرة عالية أسوارها تحيطها الكاميرات من كل اتجاه؛ لا تصافح الشمس ولا السماء الا خلال فتحات صغيرة، تعلمك أن هناك حياة تنمو ستأخذ حظك ذات يوم منها..
انتهت محطة أيلون و إلى تلموند من جديد ؛ لتبدأ أعتى وأقسى رحلة قد يمر بها الأسير ؛ أن يحاصر كخائن ويلاحق كمجرم فار إلى أرض فلاة .. ! عدت وتم استجوابي للتحقيق مجددا ؛ لكن هذا الاستجواب امتد لساعات دون من كن معي فما كان يمضي على الواحدة بضع دقائق وينتهي؛ دخلت الزنزانة ونظرات الغرابة كانت من استقبلتني ..! بعد ذلك بفترة قصيرة تم انتدابي للعمل ” خولياه” : يعني أن تساعد في عمل القسم وتوزيع الطعام ثم تعود إلى الغرفة قبل اذان المغرب؛ وعلى التهمة السابقة كان ليمنع منعا باتا خروجي للقسم الا للفورة فقط ، فتزداد حولي الشكوك والظنون.! كنت أعمل طوال نهاري على ترقب وحذر ، احول بيني وبين تلك الثغرة التي يتصيدني السجان بها، دون أن يغيب عن بالي يوما مصائد المخابرات الشائكة في سبيل حرق كل حي في هذه الأرض. استمر هذا الأبله لوقت طويل يحاول ويحاول يصول يجول أمام هذه وتلك .. يستغل كل فرصة صغيرة أم كبيرة يبدي أن هناك خطب ما يدور .. اخذت الأمور تتعقد لأجد نفسي محاطة بشبكة مخابراتية كبيرة.. ولكل منهم لواء وحيلة.. و كل يفضي لآخر .. ذلك وأكثر لم يجد نفعا بفضل ربي. هذا ولما رأت إدارة السجن أن مفعول السحر نفع وفشى أخذت تنهج طريقا أشد فتكا وضراوة ؛ فقد أوكلت إلى كل سجانة مناوبة أن تراقب كل تحركاتي طوال النهار ، بينما تلازم غرفتي بالليل. وإلى ضابط العدد أن يقف طويلا عند اسمي كلما حضر بدهاء ثعلب ماكر ينظر إلي بمنطق عجيب ويصمت.. ويعود مرة أخرى بعد أن ينهي جميع الغرف ليقف قليلا عند باب الغرفة قبل الذهاب.. بألف علامة استفهام ! أصبحت أسمع شتيمتي تذاع على الملأ ؛ يحضر ضابط الأمن فيقف يهزأ أي حال هذه التي وصلتي لها .. ثم يأتي ضابط المخابرات يلقي علي التحية العسكرية بينما يتساءل الجميع ما الذي يجري هاهنا .. أما أنا فقد اللتزمت الصمت تماما وليقال ما يقال توترت الأمور تأزمت ، أدركت أنه لامفر من المواجهة في النهاية ، فبت على أتم الاستعداد لأي طارئ .. وإن كان لابد من ثمن فالتزهق الروح إذن . حرب نفسية ضروس كادت تفت عزيمتي وتطيحني لولا يقيني بالله ، ومازرة أخوات القضية لي .. فكان عزمنا نخوض حربنا مشرعة إذا كان التعاطي يعني التنازل.. في تلك الفترة تحديدا قامت نائبة القسم ؛ حيث المسؤولة كانت عزلت بعد المشكلة الاخيرة؛ من جديد بتقديم طلب إلى إدارة السجن لقبول أحد الأسماء المقدمة لتخرج خولياه.. وكانت القائمة طويلة تصل لخمسة عشر اسما أدرج اسمي بينها ؛ وما كان من إدارة السجن مرة أخرى قبول اسمي دون الجميع .. تمكنت هذه الحوادث من استقطاب من كانت منها برأت ذمة الله بعد أن استنفذت كل محاولاتها للنيل مني ، وكنت لا أمقت في هذا الوجود أحدا مقتي أؤلائك الذين باعوا دينهم بثمن بخس . جولات كثيرة مرت ؛ ذكرت قليلها وتجنبت طرحت المزيد ، وما يقرب العامان لم أذق بها طعم الراحة لحظة واحدة حيث كل شيء ممنوع فالزيارة والكنتينة المحامين العيادة .. أحاور أوراقي وكلماتي كلما هممت بالصراخ والبكاء .. رفيقي قلمي وقراني و صلاتي ويقيني بأن الله مع الصابرين ؛ وأنه لابد ناصري مهما طال بي البلاء .. _
اعلم عزيزي القارئ أن جريمتي لم تكن كبيرة بما يكفي؛ إنما الغاية ضربنا ببعض في فترة صعبة بها دخلت السجون بموجة من الإضرابات والاحتحاجات,، وبها وجد العدو لحظته المناسبة؛ احتاجت منا مزيدا من الوعي ورأب الصدع ولم الشمل، بعيدا عن كل عاطفة قد تجرنا إلى ما لا يحمد عقباه. والا فقضيتي لم تخرج عن الشروع بالقتل تخففت لطعن كأكثر الاسيرات ، فالهدف الأسمى أمة لا تؤتى الا بتحطيم الفرد المسلم أولا وهو ما شرع عدونا به ؛ لا يأل جهدا يريد هدم العقيدة في نفوسنا ما استطاع إلى ذلك سبيلا، حتى إذا استيأس منا حرق فينا كل أخضر ويابس، إذا كانت نفوسنا مطلبه ، هو حال كل فلسطيني أينما دارت به السبل تتخطفه الخطوب والأيادي كل يريد حتفه ” ويمكرون ويمكر الله والله خير الماكرين ” . خرجت من سجني لسجن أكبر ، حيث قبضة الصهيون تعظم ؛ فمنذ ساعاتي الاولى بدأت رحلة شقاء أخرى ضرب سمعتي وتشويهها حيث ذهبت .. ومن الواقع إلى مواقع التواصل العديدة ، تستمر حربنا طالما على هذه الأرض حاقد واحد ، ولا تنتهي إلا بقطع اخر رمق له ، ولأجل هذا ” عش حرا ثائرا طالما استطعت، أو مت وأنت تحاول ” .