زاجل الأسرى

أنا ابن البطل، أنا عبادة ماهر الهشلمون

بقلم : أ. بهية النتشة

 

كالكثير من الأطفال كنت حبيب والدي الأول، أول فرحته التي أبكته يوم رآني، يومها تتالت الأمطار لثلاثة أيام في شهر آيار، تساقطت فيها دموع والدي فرحاً لقدومي كزخات المطر تلك، كنت كثير البكاء قليل النوم ليلاً، أذكر أنه تناوب في إسكاتي مع أمي في ساعات الليل الطوال، بل أنني أذكر تلاوته للقرآن لي حتى أهدأ قبل أن أخرج للنور أصلاً، كان يضع يده على بطن أمي المنفوخة فيسمّع ورده لها منتظراً مجيئي ليغرقني بحبه، كم خاف علي من مكروه يصيبني أو عين حاسد، حتى من أعز أحبابه، حتى أسمتني خالاتي عبادة “ما شاء الله” ماهر الهشلمون، حيث كلما مدحني أحد، قال والدي مسرعاً: قولوا ما شاء الله!

كنت خجولاً، خجولاً جداً، بل كنت ضعيف الشخصية بالنسبة للرجل الصغير الذي تمنى والدي أن يراه في، كان يحاول أن يوقظ رجولتي وجرأتي ليشعر أن بكره ذكر قوي كما يتمنى كل أب، في سن السابعة رأيت لمعة عينيه  عندما رآني أترك يديه وأذهب لأجالس الرجال في مناسبة لأحد قرابتنا، في يوم الأحد ذاك، رأيت في عينيه ما لم أفسره، كأنه وداع فخور بي كوني سأحمل دمه في عروقي ليوم الدين، لم أفهم ولم أدقق بالتفاصيل، صغير جداً كنت على التعبير والتفسير، ولكنني شعرت بشيء أعتى عن كل فهمٍ في اليوم الذي يليه عصراً، ودعني ذاهباً للعمل وبعد أن وصل باب المتجر ركضت نحوه أودعه مجدداً أنا وأختي، لم نعتد فعل ذلك! ولكن قدراً ما دفعنا للحاق به وكأنه الوداع الأخير…

ساعة بعد الوداع ذاك، كنت أحل واجباتي، رأيت أمي تجوب المنزل تمسك هاتفها تكلم أحدهم وتكرر حمد الله بصوت مرتجف، اتسعت عيناي، لَحِقت بها، وتسارعت دقات قلبي، ثم امتلأ البيت بالمعزين بوفاته، نعم قالوا أن أبي استشهد، طفت بين الناس استمع لا أفهم، لا أصدق، لا أدري ما أفعل؟ ولكنني أعرف أنني كنت طفل والدي، الرجل الذي تمناه دائماً، جلست بجانب أمي وهمست في أذنها: أماه، أبي لم يستشهد، هذه صورة رجل آخر ثقي بي، وثق بي قلبها، شعرت بذلك وكنت على حق، نعم بعد ساعات اتضح أنني على حق، قالوا أنه في حالة حرجة وخطرة لكنه لم يستشهد، ست رصاصات كثيرة على والدي، لكن والدي قوي جداً، صدره لم يكن كبيراً واسعاً عندما كان يضمني فقط، بل كان حنوناً مليئاً بالحياة، وكيف لصدره المليء بالحياة أن يستسلم لست رصاصات فاجرة ظالمة، تلك معادلة خاسرة طبعاً..

في الأيام الأولى من غيابه، من رآني ظن أنني لا أعي ما يحدث، أغرقت نفسي في ألعاب الفيديو، ولم أتكلم أبداً أبداً، ولكنني لم استطع الصمود أكثر، بعد شهرين من الزمن ربما أقل أو أكثر، قلت لأمي: هل تعلمين أمنيتي؟ أتمنى أن أعود لذلك المتجر وأضم أبي وأخبره أن لا يتركنا، بكى قلبي وأنا أعبر عن ما لم اعتد التعبير عنه من قبل، ولكن لم تبك عيني، فأنا رجل كما تمنى أبي دائماً!

ربما يظن الكثير أن المرأة لا تسطيع تربية رجل، ولكن أمي كانت أبي بعقله وقلبه والله، أذكرها تعطيني عيدية عمات والدي وخالته وعماتي وخالاتي وجداتي وكل أرحامنا لأذهب فاصلهم، وأقوم بدور والدي الذي ننتظر خروجه قريباً رغم المئتي عام التي ظن المحتل أنه سيكسرنا بها، وأذكرها تودعني باب المسجد في صلاة العيد، وتذكرني أنني رجل قوي أستطيع دخول المسجد دون ولي يصحبني، بل وأذكر كيف كانت تنتقل من مدينة لأخرى لنصلي في مسجد قريب من أقرابنا لأجد من يكسر خوفي من الدخول وحدي، أذكر حثها لي للذهاب لصلاة الجمعة فتقول لي: أنت تذهب اليوم وحدك وفي الغد القريب يمسك والدك يدك، لا تنس سأناقشك بالخطبة حين عودتك، كانت تستمع للخطبة من شباك منزلنا وتنتظر عودتي بحماس لنتحدث طويلاً بعدها.

رغم إشراق كلماتي هذه، فقد مرت علي لحظات صعبة، في تلك المناسبة أو تلك، سأذكر لكم عندما كنت أقف باب ديوان الرجال لأدخل لوليمة غداء أو مباركة زفاف، كانت عيوني الصغيرة تحتار، تدور، تبحث عن أي اتجاه أتخذ، وبجانب من أجلس، أنظر ليدي فلا أجد يد والدي تمسكني، لحظات صعبة علي وعلى والدتي، صعبة جداً، كنت أشعر شعور الفقد حقاً، أتردد بين الإقدام الذي يجعلني رجلاً كما أراد أبي، والهروب لأمي كطفل صغير يريد أن يختبئ من كل العالم، صحيح أنني كنت أختار الرجولة والشجاعة، وأن الله كان يرسل لي أحد معارفي فيستقبلني بحفاء كرجل فيهون الموقف في عيني، إلا أنه كان يترك في قلبي ندبة غائرة والله،  أم أذكر لكم تلك الأيام التي كان يعيدني الضابط من على حاجز الظلم، ويقول لي أنني ممنوع أمني من زيارتي والدي، لم يقتصر ذلك الموقف على خذلاني لوالدي وبكائي حينها -سامحني يا والدي فقد كان الموقف أكبر مني، كما أنك نقطة ضعفي كيف لا أبكي وأنا أمنع منك- بل استمر الضعف داخلي لسنة كاملة بعدها، كلما وصلت للحاجز!! كم رجفت، وعرقت، وتقلصت معدتي، وشعرت برغبة بالاستفراغ من الخوف، والارتباك من أن يعيدني ذلك الضابط المفتري!!

أم أخبركم عن اليوم الذي سمح لمريم بالدخول لحضن والدي في الزيارة، ومنعوني لانني أكملت ثمانية سنوات، لقد قرروا عني أنني كبرت وأصبحت رجلاً، لأجل ذلك حينها أخترت الطفولة وبكيت كثيراً،من هم ليقرروا عني!

 

ولكنني أقول لك يا أبي، وأقول لكم، وللدنيا أجمع، أن كل ما مر معي من تفاصيل، كانت أجمل ما حصل لي، فلو جالستموني اليوم وأنا ابن الثالثة عشر، لرأيتم حكيماً فهيماً لا يشابه أقرانه، لقد أصبحت كما أرادني أبي حقاً منذ أول يوم جئت فيه لهذه الدنيا، فأنا واعٍ جداً لدرجة أنني أحرص على النجاح في دروسي، ومساعدة والدتي، والصلاة والصيام والدعاء لأبي، وأصل رحمي لأكون امتداده في سجنه، وأحسن خُلُقي ليشير الناس إلي ويقولوا: ونعم الأخلاق أخلاق عبادة بن ماهر، هكذا هم أبناء الأسرى، أنا عبادة الذي رأيت حكمة الله في الابتلاء رغم صغر سني، ابن ماهر الهشلمون، الذي أنتظر لأكون ذراعه الأيمن عند خروجه قريباً، ابنه البكر الذي تفتحت الرجولة على يديه وأزهرت.

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى