بالورقة والقلمشؤوون الأسرى

منتصر شلبي

تجلس زوجته في المقعد الأمامي المجاور له من المركبة بينما يملأ الأطفال بصخبهم ومحادثاتهم الاعتيادية المقعد الخلفي، لم تتطلب الرحلة الكثير من الوقت، فسرعان ما وصل الجميع إلى بيت الجد وراحوا يتسابقون نحو الداخل، بينما لم يغادر هو مقعده واكتفى بالقول أن عليه بعض الأعمال التي يجب أن يقوم بها اليوم. ودع زوجته وغادر.

لاحقًا ستعلم الزوجة أن تلك الأعمال لم تكن سوى عملية “حاجز زعترة” في وسط الضفة الغربية، وستعقبها حياة مختلفة عما مضى، ولكن لها معنًى أكثر قيمة.

منتصر شلبي

أصبح لهذا الاسم وقعٌ جميلٌ على المسمع منذ قام بالعملية الشهيرة، ذلك لأن الظروف والأحداث التي رسمت القصة تمنحَ أملًا مختلفًا ويافعًا، أشبه بالضربة القاضية التي يوجهها ملاكم مُتعب لخصمه قبل أن يخطف فوزه الذهبي وسط ذهول المتفرجين.

إذ لم يكن خفيًا على أحد كم كانت الشهور الأخيرة منذ أبريل 2021 صعبة على الفلسطينيين عمومًا، والمقدسيين على وجه التحديد، وذلك بعد أن أشعلت قضية حي الشيخ جراح المنطقة العربية برمتها، وكانت الفتيل الذي أضاءت شرارته مُدن الـ48 المُحتلة كحيفا ويافا واللد وغيرها، حتى وصلت إلى غزة التي خاضت المعركة ببسالة وثبات معهودين. لكن اسم منتصر شلبي يرد في الصفحات الأولى من تلك القصة، وتحديدًا في اليوم الثاني من شهر أيار 2021، عندما توجه إلى المنزل وأحضر مسدسه، ثم أخفاه في قطعة قماش، وركب سيارته متجهًا إلى نقطة تُعتبر واحدةً من أشد الحواجز تحصينًا من قِبل الاحتلال، ولعل ذلك السبب ذاته ما جعلها الهدف الأفضل لتواجد الجنود والمستوطنين.

عندما اقترب منتصر من الحاجز خفف من سرعة السيارة، وراح يتفحص المكان باحثًا عن أفضل نقطة للاشتباك، تلاقت عيناه مع فريسته أخيرًا، خمن أن تلك هي اللحظة المناسبة، فسحب المسدس وصوبه نحو مجموعة من المستوطنين وأطلق النار وهو يردد: (الله أكبر)، وسرعان ما سقطت الجثة الأولى على الأرض والثانية والثالثة، وانقلب المكان لساحة معركة في لحظات وسط اطلاقٍ متبادل للنار، والكثير من الصرخات ومحاولات الفرار.

استمر منتصر بإطلاق النار حتى انفجرت فوهة مسدسه، فأسرع بالخروج من المكان بمركبته، مُخلفًا قتيلًا ومصابان، بينما نجح هو بالخروج سالمًا إلا من إصاباتٍ طفيفة.

المطاردة

جُن جنون الاحتلال، وبدأ بالبحث عن أي خيط يوصله لمنفذ العملية، وسرعان ما كشفت الساعات الأولى عن اسم البطل الشجاع، هو منتصر شلبي من قرية ترمسعيا التابعة لمدينة رام الله، وعُمره 44 عامًا، متزوج ولديه 7 أبناء، وهو رجل أعمالٍ فلسطيني يحمل الجنسية الأمريكية، ويمضي وقته متنقلًا بين البلدين، إذ أن له محلًا في الولايات المتحدة الأمريكية.

كانت تلك المعلومات أشبه بصفعات متتالية على وجه الاحتلال الشاحب، عشرات الأسئلة كانت تعج برؤوس مسؤوليه وقواته المُحتلة، إذ لماذا يغامر رجل تخطى الأربعين من عمره بفعل ذلك؟ رجل ميسور الحال لا يعاني فاقة ولا ينقصه المال لينعم مع أسرته بحياة هادئة وبسلام ؟؟ لكن الاحتلال لا يمكن له أن يفهم أبدًا معنى الرغبة بالحصول على حياة كريمة، وأن تلك الكلمة تحديدًا (كريمة) لا تعني رغد العيش أو وفرة المال، وإنما تعني الحرية في الوطن، وأن تركب سيارتك لتقودها من صفد حتى عكا، ثم تعرج على يافا، فإلى جنين فالقدس فالنقب، دون أن تستوقفك الحواجز وبنادق محتل جبان، كل ذلك كان صعب الشرح على المحتل، فأختار منتصر لغة أسهل عله يفهم.

قاد منتصر سيارته إلى بلدة عقربا في نابلس، ثم توجه إلى أطرافها، ثم غادر نحو قرية فصايل في أريحا، ومنها إلى رام الله، كان عليه أن يتخفى جيدًا فحلق شعره وقام بصبغه، وحرص على التنقل المستمر خوفًا من عيون المحتل وأعوانه، وذلك بالتزامن مع حملة مسعورة يقودها الاحتلال بالبحث عنه، بدأها بتمشيط بلدات عدة منها قصرة وبيت فوريك وقفين وعورتا وبورين وجالود وغيرها.

كان البحث دقيقًا وسريعًا، شمل الحقول والأحراش وحدائق المنازل والسطوح، بل إنهم بحثوا عنه في خزانات المياه أيضًا، إلى أن وردتهم معلومة بالعثور على سيارته، وعندما وصلوا إليها كان شبان الحي قد أسرعوا لإحراقها لإخفاء أي دليل يقودهم إلى منتصر.

استمرت المطارة بضعة أيام إلى أن تمكنوا من الوصول إليه وأسره في السادس من شهر أيار في بلدة سلواد الواقعة في مدينة رام الله.

ثبات العائلة

ليس منتصر بالبطل الوحيد في هذه القصة، فعائلته نالت حصتها أيضًا وكانت جديرة بها، فمن عادة الاحتلال المسارعة بالنيل من أقارب منفذي العمليات، وسلبهم ممتلكاتهم، وهدم بيوتهم، والتحقيق معهم بأفظع الوسائل، ولقد حاولت أسرة منتصر أن تحول دون قرار هدم فيلا العائلة مستعينة ببعض الجهات الأمريكية (كونهم يحملون الجنسية الأمريكية)، لكن اللوبي الصهيوني منع تدخل أي طرف خارجي، بل لم يصل أي رد للعائلة، وكأن تلك المناشدات والمطالبات لم تكن أصلًا.

وبالفعل قامت قوات الاحتلال بإخراج عائلة منتصر من المنزل، وبدأت بزراعة عبوات متفجرة، تطلب فعل ذلك منهم ست ساعات كاملة بسبب الحجم الكبير للمنزل الفاره الذي يتكون من طابقين اثنين، وقفت العائلة على بعد خطوات من المكان الذي كان يسمى بالأمس (المنزل)، أما بعد دقائق أصبح عبارة عن ركام وغبار لا أكثر هزت شدة تساقطها أرجاء المكان، سارة ابنة منتصر الصغيرة قالت: (كنت أشعر أن الأرض تتحرك تحت أقدامي من شدة الهدم)، بينما علقت زوجة الأسير على هدم المنزل بالقول: (لن ينالوا من عزيمتنا مهما فعلوا .. منتصر قوي .. منتصر بطل .. وما فعله مبعث للفخر ورفع الرأس)، أما ابنه أحمد -الذي تفوق بجدارة في الثانوية العامة مؤخرًا على الرغم من الظروف التي تزامنت مع الامتحانات من عملية والده واعتقاله وهدم المنزل- قال: (فلسطين مهرها غالٍ وسنبقى نضحي حتى ننال الحرية).

محاكمة منتصر

– لماذا فعلت ذلك؟
– بعقيدتي يحق لي فعل ذلك بمن سرق أرضي واعتدى على بلادي
– لكن بحسب علمي فأنتَ تملك فيلا لا مجرد بيت وحسب، وتعيش بشكل جيد ..
– فعلتها لأجل أسدود وحيفا .. لأجل كل البلاد المحتلة ..

بحسب ما ورد في أحد تقارير القنوات العبرية الذي تم بثه نقلًا عن معلومات من مصدر في الشاباك، فإن ذلك الحوار دار بين ضابط التحقيق ومنتصر شلبي عقب الإمساك به، وقد يعتقد الاحتلال أن بث ذلك –سواء أصدق أو كذب- يصب في مصلحته، والحال أن تلك هي لسان حال شُبان فلسطين المحتلة جميعًا من شمالها حتى جنوبها، ومن شرقها حتى غربها، يؤمنون أن استعادة كل شبر يحتاج لمقاومة واشتباك دائم مع المحتل، والعمل على تعكير صفوه، وقض مضجعه ومنعه من النوم براحة، خاصة بعد أن أكدت عقود المفاوضات الثلاث الأخيرة فشل لغة الحوار وإضاعتها لكل المكاسب التي حققتها حركات المقاومة فيما سبق.

واليوم يؤكد الاحتلال على ذلك من خلال استمراره في الاعتقالات والمحاكمات الشكلية الاستفزازية، وليست محاكمة منتصر بآخرها، إذ ومنذ أسره في السادس من تموز، تم عرضه في أولى جلسات المحاكمة في تاريخ التاسع والعشرين من شهر حزيران، وأجّل القاضي المحاكمة لتاريخ لاحق، ولم يصدر بحقه أي حكم حتى لحظة كتابة هذا المقال في منتصف شهر أغسطس.

رسالة إلى منتصر

أجلس الآن في مقعد مكتبي، وإلى جانبي كوب من الشاي أرتشف منه القليل ثم أنظر إلى شرفتي التي تزهو بنباتاتي الجميلة لتجعل الإطلالة بالسحر الذي أحب وأنا أكتب هذه السطور عن عملية حاجز زعترة، في الوقت ذاته الذي يجلس منتصر على البرش (سرير الأسير) الصغير في زنزانة حقيرة، يفكر في الغد الذي يشبه تمامًا اليوم الذي يليه، وبعده بأسبوع، وشهر، وسنوات، ومن يدري !

ما أريد قوله أنه لقرار شجاعٌ للغاية ذاك الذي يتخذه أبطالنا باستبدال وجه عائلاتهم ومن يحبون بوجه السجان والمحتل كل صباح، وأن يستبدلوا دفء البيوت ببرودة الزنازين، والسماء الواسعة بسقف وجدران، والحرية بقضبان وقيود، تلك أكثر من شجاعة وبسالة، أن ترهن حياتك لبلادك مهرًا بسيطًا .. علها ترضى، وأنني أكيدةً أن كل كلمة أو رأي يساهم في الشد من أزرهم يصنع فارقًا كبيرًا إذ حصل ووصل لمسامعهم، أو عندما تقع عيونهم عليه عندما يمن الله عليهم بحرية مأمولة .. قريبة إن شاء الله، فلا تبخلوا عليهم بذلك، زينوا صفحاتكم بهم، اكتبوا عنهم، اجعلوهم قناديل تضيء طريق الأحرار إلى نور النصر.

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى