حروف على أعتاب الحرية

حلقاتٌ من نور في سجون معتمة

بقلم: فرسان خليفة

 

تنوّعت أساليب الاحتلال الصّهيوني وسياساته المنتهجة بحقّ أسرانا البواسل، وتعدّدت وسائل القمع عنده بقدر تعدّد أهدافها النّفسية والجسديّة التي كان من أبرزها "كيّ" الفكر المقاوم في عقول الأسرى ووأده في نفوسهم بالإضافة إلى عزلهم جسديًا ونفسيًا وتغييبهم عن العالم الخارجيّ. ولقد كانت سياسة العزل الانفرادي وبناء المعتقلات في صحراء النقب من أهمّ تلك الأساليب الوحشيّة التي ابتكرها الصّهاينة لتحقيق أهدافهم.

لاشكّ أنّ الاحتلال باعتقاله للمقاومين يسعى لأسرهم جسدًا وفكرًا وسلوكًا، وإنّ ممارساته بحقّهم لم تكن إلاّ نتيجة دراسات وبحوث وتجارب "علمية" عالمية أُجريت على مدار عقود بهدف دراسة شخصيّة المقاوم وتفكيره وكيفية تحطيمه و إفراغه من كلّ نفس مقاوم.

وقد خلصت تلك الدّراسات والتجارب إلى ضرورة اعتماد أساليب قمعية مبتكرة مبنية على أساس علمي، فتمّ تطبيقها على مئات الآلاف من المعتقلين في سجون الأمريكيتين وأوروبا، وكم كانت النتائج مبهرة!

وعلى مرّ العقود حاول الاحتلال الصهيونيّ اعتماد تلك الأساليب بل مضاعفة وحشيّتها على الأسرى الفلسطينيّين، فهل نجح في كسر شوكتهم؟ لقد أثبت الأسير الفلسطيني مقاومة عجيبة لتلك الوسائل، فكانت النتائج مخيّبة لدولة الاحتلال، وبالرّغم من تمادي الاحتلال في أساليبه الهمجيّة فإنّ الأسرى لم يزدادوا إلا صبرًا وصمودًا وإرادةً وثباتًا.

ولعلّ المشاركة في دروس العلم وحفظ القرآن في السّجون قد كانت من أبرز الطّرق التي انتهجها الأسرى للإبقاء على النّفَس المقاوم فيهم، وهم في ذلك يسيرون على هدي الآية الكريمة "… يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ".

فمنذ سنوات عديدة أوجد كلّ تنظيم لجانًا متنوّعةً داخل السّجون الصّهيونيّة، ومن بينها اللّجنة الثّقافيّة التي تُشرف على وضع برامج موزّعة على كامل اليوم وعلى امتداد الشّهر، ويكون بعض تلك البرامج إلزاميًّا في حين يظلّ البعض الآخر منها اختياريًّا.

وقد كانت لي تجربة رائعة في القسم رقم 5 في سجن "رامون"، حيث كان ذلك القسم كخليّة نحل لا تهدأ بل تصل اللّيل بالنّهار، كنّا مئة وعشرين أسيرًا في ذلكم القسم.

كان أكثر من ربع الأسرى من حفظة القرآن كاملاً وكان عشرون أسيرًا ممّن يحفظون أكثر من ربع القرآن، أمّا بقيّتنا فكانوا يحفظون خمسة أجزاء، وأذكر أنه قد كانت هناك لجنة لمتابعة الحافظ للقران من ناحية تثبيت القرآن والتّسميع اليومي، بالإضافة إلى لجنة أخرى خاصّة بالتّجويد، ولجنة ثالثة لإعطاء السّند المتّصّل لرسول الله -صلّى الله عليه وسلّم-.

وكنّا لا ننقطع عن الحفظ، يوميًّا مابين صفحة إلى خمس صفحات، وفي اليوم التالي يتمّ عرضها على اللّجنة أو عند بعض الأسرى داخل غرفهم، ولعلّ من مظاهر المحافظة على تلك السيّرة تحوّل الفورة الصباحيّة إلى فرصة لمواصلة حفظ القرآن وعرضه، وكان الأمر يتواصل بعد العودة من الفورة.

ولئن كان المجال لا يتّسع لتعداد ما كان يقوم به الأسرى في سبيل طلب العلم وحفظ القرآن؛ فإنّ الإيمان بأهميّة الانخراط ضمن البرامج التي تسطّرها اللّجان داخل السّجون كان طاغيًا، فالأسير الذي يُحرم من سلاحه عندما يُعتقل يجاهد في طلب العلم بمختلف أشكاله حتّى يكون له سلاح من نوع جديد سيحميه من غطرسة الصّهاينة وسيمكّنه من السّير في ذات الدّرب، درب المقاومة والنّضال حتّى النّصر الكامل.

 

 
اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى