
بقلم: الأسير المحرر أحمد أبو طه
عند الإعلان عن صفقة وفاء الأحرار عام 2011م، سادت مشاعر متراوحة بين ثنائيّتي الأمل والألم، والفرح والحزن، قلوب معظم الأسرى المبعدين من الضفة إلى قطاع غزّة، تلك المشاعر المتبادلة بين كلّ أسير وأهله لم تكن لتختلف رغم البعد والفراق وأسوار السجن. ولئن كان كلّ أسير يترقّب لحظة بلحظة تطوّرات التّفاوض وينتظر وصول أسماء المفرج عنهم دون أن يُعير أمر الإبعاد الاهتمام الكبير؛ فإنّ لحظة الإعلان عن الأسماء وأماكن الإفراج قد أثّرت في نفوس المحرّرين المبعدين وانعكست على أفكارهم وآمالهم ومخطّطاتهم.
لابدّ أنّ كلّ أسير يتمنّى الإفراج بعد سنين الفراق والبعد ليكون بين أهله: أمّه وأبيه، زوجته وأبنائه، إخوانه وأخواته، أقاربه وأصدقائه وأبناء قريته، جامعته ومسجده ومكان عمله وذكرياته، تزدحم صورهم جميعًا في لحظات التّرقّب السّابقة مباشرة للإعلان عن قائمة الأسماء التي شهدتها الصّفقة، تزدحم فتأخذ الأسير نحو دوّامة من الأفكار التي ترتسم من خلالها الفرحة بالحرّيّة منقوصة في ظلّ الإبعاد عن الأهل، ويكون التّفكير الأساسيّ حينها منقسمًا بين إيجاد سبل ولو افتراضيّة للعودة إليهم واستشراف صورة لواقع الحياة التي تنتظره وهو الحرّ المحروم من العيش وسط العائلة.
تصل الحافلات معبر رفح فتكون لحظة مفصليّة فارقة تنقلب فيها الآية؛ فتتنزّل طمأنينة ربّانية على القلوب، وتغمر النّفوس راحة لا مثيل لها وهي ترى الجموع من أبطال المقاومة ورموزها وأبناء شعبنا من قطاع غزة؛ من رفح إلى بيت حانون مصطفّة كلّها في عرس وطني مهيب تستقبل المحرّرين المبعدين، أولئك الذين دخلوا السجون واعتبروا أنفسهم مقبورين فيها، فإذا بهم يتحرّرون منها ويكون لهم ميلاد جديد بعيدًا عن أسوارها العالية الشّائكة.
مرّت أربع سنوات على الإفراج والإبعاد استطاع خلالها المبعدون التّعايش مع الواقع الجديد، بل إنّهم قد أصبحوا جزءًا أساسيّا فيه، ففي مستوى العلاقات الاجتماعية أقام كثير من المبعدين علاقات نسب فتزوّجوا من شابّات قطاع غزة؛ فاكتمل التّمازج وتأسّست علاقات أسرية جديدة؛ توطّدت بها أواصر المجتمع بين الضّفّة وغزّة. أمّا على المستوى الدّراسيّ فقد أكمل عدد كبير من المحرّرين المبعدين دراستهم الجامعيّة في غزة سواء في مرحلة البكالوريوس أو الماجستير، بل إنّ منهم من بدؤوا يخطون طريقهم نحو درجة الدكتوراه. وفي مستوى العمل انخرط المبعدون في عدد كبير من المشاريع الخاصة كافتتاح محلات تجارية أو مطاعم إضافة إلى مراكز التدريب والأبحاث، كما تمّ استيعاب آخرين في الأعمال التّنظيمية والحكومية، ممّا أهّل هؤلاء المبعدين ليكونوا لبنة جديدة في صمود أهلنا وشعبنا في قطاع غزة مثلما ساهموا سابقا في نصرة الضفة والمقاومة.
وبالرّغم من كلّ ذلك تجدر الإشارة إلى أنّ الإبعاد يظلّ بعدًا عن الأهل واختلافا في العادات المعيشية والاجتماعية، ولعلّ المعاناة الأقسى للمبعدين هي عدم استقرار زيارات الأهل والإغلاق المستمرّ للمعابر، فلا يستطيع المبعَد السفر عبر معبر رفح ولا استقبال أهله من معبر بيت حانون “إيريز”، وما يتسبّب فيه ذلك من تشتيت للعائلات وقطع متعمّد للأواصر، وتشكّل الملاحقة المستمرة حتى اليوم من قبل الاحتلال للأهالي واقتحام المنازل في الضفة وتهديد بعضهم بالاعتقال في حال تواصلوا مع أبنائهم المبعدين إلى غزة ضغطًا نفسيًا جديدًا يضاف إلى المعاناة التي يخلّفها الإبعاد في نفوس المحرّرين المبعدين.
ولأنّ المبعدين قد اعتادوا على ابتكار أساليب جديدة للمقاومة فإنّهم يحاولون التّعويض عن هذا البعد والفراق من خلال التّقارب مع بعضهم البعض وإحياء المناسبات الاجتماعية بشكل جماعي وتفقّد أحوال بعضهم البعض بصفة متواصلة، وهم في ذلك جسد واحد في الأفراح والأتراح وفي كل مناسبة عامة أو خاصة، كما تجدهم سبّاقين للعمل الخيري والاجتماعي وزيارات أهالي الشهداء والأسرى إيمانًا منهم بأنهم يؤدّون واجبًا شرعيّا ووطنيّا.