إعداد وتقديم: فيصل بامري
"تلاشت آهات يوسف العرعيد المكبوتة .. لم تجد طريقها إلى نخوة المعتصم ولا إلى نخوة أبي جهل .. انضمّ إلى الرّكـب ورحـل بصمت .. شهداء قُتلوا بدم بارد على أسرّة المـرض في سـجون الاحتلال .. عبد القادر أبو الفحم، عمر القاسم، يحـيى النّـاطور، حسين عبيدات، معزوز دلال، رياض عدوان، والرّكب طويل! وإذا كان هناك من ينتظر الانضمام وينطوي على لهيب معاناته، فلا أقلّ من أن نقصّ عليكم قبسًا يسيرًا من هذه المعاناة .. صحيح أنّ صفحات الجرائد كثيرًا ما شهدت ذِكرهم، ولكن الجديد الآن هو أن نـدخل إلى عالمهم، ونشاركهم خلجات قلوبهم، ونتفيّأ ظلال أرواحهم .. لـن نثقل عليكم، سنعودهم بصحبتكم، ففي عيادة المريض أجر ومن السّنّة أن تكون عيادة المريض قصيرة …"
بهذه المقدّمة افتتح الأديب الفلسطينيّ والأسير المحرّر وليد الهودلي مجموعته القصصيّة "مدفن الأحياء" التي كتبها أواخر تسعينيات القرن الماضي أثناء اعتقاله، وهي مجموعة أراد لها صاحبها أن تكون "قبسًا يسيرًا من هذه المعاناة"، معاناة الأسرى المرضى في سجون الاحتلال الصهيونيّ، فحملت كلّ قصّة شهادة تاريخيّة تثبت الجرائم الصّهيونيّة المتواصلة بحقّ الشّعب الفلسطينيّ ممثّلا في أسراه وخاصّة المرضى منهم.
وبالاستناد إلى تجربته الذّاتيّة لا في الاعتقال فحسب بل في الإقامة في "مستشفى" الرّملة تميّزت قصص الهودلي بواقعيّتها ودقّتها في الوصف؛ ممّا يجعل القارئ يلامس مباشرة آلام الأسرى المرضى ويقف عند معاناتهم، ويدرك أنّ سياسة الإهمال الطّبيّ المتعمّد والقتل البطيء الممنهج هي السّبب الرّئيسيّ في استشهاد العشرات من الأسرى وتَواصُلِ معاناة مئات الآخرين منهم.
وقد ارتكزت المجموعة على اثنتي عشرة قصّة قصيرة، اختلفت حكاياتها وتعدّد أبطالها ولكنّ المشهد المرسوم ظلّ واحدًا: فلسطينيّ يفدي الوطن بحريّته؛ فيُعتقل ويلقَى من العذاب ضروبًا لا تحصى ولا توصف، يمرض فلا يجد من السّجّان الصّهيونيّ إلاّ المماطلة في العلاج والاكتفاء بنوع واحد من المسكّنات يعجز عن إيقاف تغلغل العلل في جسد الأسير.
يصف وليد الهودلي بلغة الأديب المتمكّن آلام محمّد أبو هدوان، وعمر الخطيب، وياسر المؤذّن، وجمعة إسماعيل، وعلي شلالدة وغيرهم ممّن التقى بهم في مدافن الأحياء سواء كانت "مستشفيات" أو معتقلات صهيونيّة، وهي أسماء لشخصيّات واقعيّة تستحقّ أن تتبوّأ مكانتها الحقيقيّة في مسيرة نضال الشّعب الفلسطينيّ، فتصبح مجموعة "مدفن الأحياء" همزة وصل بين القارئ وجزء هامّ من أبناء الوطن المنسيّين؛ وتأريخًا يمنح الحقّ لأصحابه الذين يعانون من ظلم الاحتلال ومرارة تهميش ذوي القربى وتغييبهم لهم، ولعلّ ذلك سيضاعف مسؤوليّة الهودلي في توثيقه وتسجيله لمعاناة الأسرى المرضى الذين استُشهد بعضهم لاحقًا بسبب الإهمال الطّبيّ المتعمّد.
لكنّ تكوين وليد الهودلي النّضاليّ والأكاديميّ -إذ إنّه خرّيج معهد المعلّمين في رام الله- قد ساعده على الاضطلاع بتلك المهمّة على أكمل وجه، فكانت المجموعة القصصيّة بمثابة الوثيقة التّاريخيّة بالإضافة إلى طابعها الأدبيّ، الذي يصوّر حكايات الأسرى المرضى بطريقة فنّيّة تجاوزت الاقتصار على الوصف المباشر الذي برع فيه بدرجة تدمي القلب؛ لترسم الصّمود الفلسطينيّ في حلقاته الأضعف -الأسر والمرض- في وجه المحتل الصهيوني صمودًا بطوليًّا ينتصر على ضعف الجسد وغطرسة السّجّان في آن واحد.
يكتب الهودلي فنرى في كل قصّة فلسطينيّا مناضلا قد لا يكون بالضرورة منخرطًا ضمن تنظيم أو فصيل، ولكنّه ينتمي حتمًا إلى ذلك الوطن ويستمدّ قوّته في مواجهة المحتلّ والموت البطيء من حبّ فلسطين وإيمانه بالحرّيّة.
أمّا من النّاحية الفنّيّة فتتنوّع أساليب السّرد في أقاصيص وليد الهودلي، ويُوظَّف الحوار في خدمة القصّ في حين يلعب الوصف والتّكثيف الدّور البارز في الانتقال بالقارئ من متلقٍّ تفصله عن الأسير المريض عدّة حواجز إلى داخل مدافن الأحياء يشاركه المعاناة والآلام، ويقف عند حقيقة أنّ الشّهيد الحيّ في أشدّ أوقاته ضعفًا، يظلّ صامدًا ينشد النّصر والحرّيّة حتّى ينالهما.