سلسلة أنبوب اختبار 2
بقلم : – مروان ابو فارة
قلنا في التقديم لهذه السّلسة أنّ الأسرى الفلسطينيّين يتعرّضون إلى ما يمكن تسميته تجارب مخبريّة متعمّدة يقوم بها الاحتلال، وأهمّها محاولات الثّني عن الأهداف التي انطلق من أجلها الأسير والحركة الأسيرة في العمل قبل أن يحطّوا رحالهم بين جدران السّجون وكان أكثر ما يؤرق المحتلّ أنّ فئة من الشّعب الواقع تحت الاحتلال لا تعترف بوجوده أصلا ولا أقول ينكرون لأن الإنكار هو التّعامي عن حقيقة موجودة يحقّق جحدها مصلحة ما وإنّما أتحدّث عن عدم الاعتراف بكينونة ذلك المحتلّ من الأساس وهو أمر مهين جدّا للمحتلّ إذ أنّه يأتيك بالطّعام والشّراب ويحرسك طوال اليوم فتقابله بعدم الاعتراف بوجوده وكأنّه عدم محض رفعه جهل البعض وانحناؤهم أمامه على أنّه السّيّد في المنطقة.
التّحقيق مع الأسير الفلسطيني
أولى محطّات التّدجين التي يسعى المحتلّ إلى إيقاع الأسرى الفلسطينيّين فيها هي محطّة التّحقيق حيث يكون الأمر معقّدا بصورة مخيفة إذ تجد أنّ المحقّقين يعمدون إلى الاحتياجات الأساسية في التحقيق ويبادرون بقضائها للأسير ويفردون له جلسات من التّحقيق تطول بصورة غير مبرّرة لا يتحدّثون فيها عن التّهم التي يوجّهونها للأسير بل يسمّونها دردشات عامّة تكون في الأغلب مقارنات بين عيش الضّنك والاستهداف الذي يتعرّض له المقاوم في أرضه المحتلّة والجنّة المزعومة التي يحيا فيها من يصمت عن الاحتلال ويشايعه والنّعم المزجاة التي ينعم بها من يعاون الاحتلال فإن يئس المحقّق من قبول الأسير العمل معه أو الصّمت عن وجود الاحتلال وتبعاته على الأرض أخذ في الحديث عن إنسانيّة المحتل وأنّه يسمح للفلسطينيّين بالعمل ويعالج المرضى ويسهّل المعيشة للسّكّان كما يقول ولك أن تستحضر المحاضرة الأخلاقية التي ألقاها السّفير الصّهيوني في الأمم المتّحدة وهو ينهال على ممثّل النّظام العلوي ويحدّثه عن الأخلاق الفاضلة التي تتحلّى بها دولة الكيان الصّهيوني وياله من انقلاب في كلّ المعايير.
وإن أفلت منه الأسير في المحاولة الثّانية يشرع في الحديث عن المظلمة اليهوديّة التّاريخيّة وأنّك إنّما ترفض وجوده من باب أن دينك الإسلامي يرفض الآخر ويقصيه ويبدأ في استحضار أمثلة من الواقع وهنا يدخل البعض في هفوة الدّفاع المستميت عن الإسلام بعاطفة تخلو من علم وأدلّة ممّا يعطي المحقّق فرصة أخرى ليلج إلى اللاّوعي ويخزّن ما يشاء وربّما يظنّ البعض أنّ الأمر فيه مبالغة لكنّ الأدلّة ستجعله يغيّر رأيه فمثلا هناك أسرى أمضوا أعواما مديدة في السّجون الصّهيونيّة ومن ثمّ خرجوا وأطلّوا علينا بمبادرات وأمور يندى لها الجبين وتذوب الوجنات منها خجلا فهل لك أن تتخيّل استشهاديّة في الانتفاضة الثّانية لا تفلح في تنفيذ عمليّتها ويتمّ أسرها وبعد تحرّرها تنشئ مع الصّهاينة منظّمة لوقف العنف. تخيّل النضال يصبح عنفا ومحاولات التّحرر تصير إرهابا ولا تكتفي هذه المحرّرة بالقول عن بعد بل تسجّل مع أسرى آخرين مخدوعين وصهاينة فيلما وثائقيّا لما تعدّه نضالا جديدا بالصّورة السّلمية ولك أن تبحث وترى كيف انطبع الذّلّ في عيني من يتحدّث منهم وترى كيف خرجوا من قافلة الشّعب إلى أقفاص التّدجين مع المحتلّ الذي لا يقبلهم إلاّ أدوات وقفّازات مرحليّة لتبييض وجهه الدّميم الذّميم.
سجن الأسير الفلسطيني
ثاني محطّات التّدجين هي السّجن حيث سيقضي الأسير فترة اعتقاله التي قد تطول أو تقصر تبعا للتّهم الموجّهة إليه، وهنا يمكن القول أنّ هناك أكثر من أمر يساعد في إخضاع الأسير للتّدجين وأوّلها الإعلام الصّهيوني المفروض على الأسرى متابعته دون أن يكون لهم الحقّ في إلغاء هذه القنوات الصّهيونية فأنت طوال يومك ترى الأخبار والعالم بكلّ ما فيه بعيون صهيونيّة عنصريّة بحتة وهناك للأسف بعض الأسرى يعتمد الرّواية الصّهيونيّة في الإعلام ولا يمكن أن يحيد عن رأيه في مسألة إذا كان الإعلام الصّهيوني قد قال فيها قولا حتّى وإن كان المقابل فقها أو نصّا واضحا صريحا لا نقاش فيه، وهو يبرّر ذلك بأنّ الصّهيوني يعتبر محايدا في المنطقة ولا يمكن أن ينحاز لطرفهم وهذه حجّة مدحوضة بالواقع والبرهان والدّليل، وإن سمح المحتلّ بقنوات ناطقة بالعربيّة فهي قنوات مقاربة ومشابهة وربّما سابقة لإعلامه في الكيد لهذه الأمّة فهناك قنوات عربيّة نسخت مفاهيم ومصطلحات الصّراع مع المحتلّ فكلّ من يُستشهد مقاوما للمحتلّ قتيل، ولا أذكر أنّي خلال المرّة الأخيرة التي كنت فيها في السّجن أنّي رأيت كلمة شهيد خلا مرّة واحدة يتحدّث فيها التّقرير عن مواطنين عرب في بلد ما استهدفتهم مليشيا منقلبة في بلد آخر بقذائف فاعتبرهم إعلام ذلك البلد شهداء مع أنّه كان بينهم آسيويّون غير مسلمين ربّما، وفي ما عدا ذلك يعتبر كلّ فلسطيني يستشهد قتيلا كغيره من القتلى، ويمكن القول أيضا في مسألة الإعلام العبري الصّهيوني أنّه يختار أناسا محدّدين يخدمون فكرته، ولا زلت أذكر تلك المقابلة مع كاتب فلسطيني تابع للنّظام الحاكم وهو يتحدّث عن أبطال انتفاضة القدس الحاليّة على أنّهم ليسوا إلاّ مراهقين غضبوا من أهليهم أو عشيقاتهم أو فشلوا في امتحاناتهم المدرسيّة والخلاصة أنّه ليست هناك ممارسات احتلاليّة قمعيّة ولا انتهاك للمقدّسات وتعدّ على الأعراض وإنّما هفوات مراهقة وعليه فَقِسْ، وهناك الكثيرون الذين قالوا ما هو أشدّ نكاية من ذلك ولكن تبقى عقدة النّقص والتّبعيّة للمحتلّ والخوف منه هي الغالبة على بعض النّفوس الضعيفة الهزيلة.
غسيل دماغ الأسير الفلسطيني
أمر آخر استغلّه المحتلّ لمحاولة تدجين بعض الأسرى الفلسطينيّين ألا وهو التّعليم في الجامعة الصّهيونية المفتوحة حيث وقع بعض الأسرى للأسف في فخّه هذا وأصبحوا يرون الأمور من منظور صهيوني بحت حتّى تاريخ العرب والإسلام والشّرق الأوسط تتمّ دراسته من خلال منظار صهيوني حتّى أنّ أحدهم بعد هذا التّحوير والتّحويل في فكره أصبح ينظر إلى نفسه على أنّه مفكّر صهيوني، ولن اذكر اسمه حفاظا على المشاعر العامّة ويبقى هو ومن شايعه قلّة قليلة لا يؤبه لها ولكنّه للأسف كان المثال الأبرز على محاولات التّدجين الصّهيونيّة للحركة الأسيرة.
وعلى الطّرف الآخر فقد درس البعض في الجامعة العبرية المفتوحة وهاهم الآن قامات شامخة في وطننا المحتلّ حيث يحلّلون ويكتبون وينذرون من المحتلّ وكأنّهم أخبر به من نفسه والفارق واضح والشّاشات تعجّ ببعضهم ومراكز الدّراسات غير أنّ ذلك لا يمنع أن تذكر محاولة التّدجين هذه التي أفلحت مع البعض.
تدجين الأسير الفلسطيني
تبقّى أمر آخر وأخير في استعراض هذه التّجربة التّدجينية وهو فخّ التّعامل اليومي مع الاحتلال حيث يتحوّل الأمر في بعض الأحيان إلى كسر حدّة الرّفض للمحتلّ الغاصب وربّما للأسف ينسحب البعض إلى هوّة ما يمكن تسميته الصّداقة أو ما يشبه من علاقات العواطف الحنونة وهو من الأمور الخطيرة وقد أفلح المحتلّ الغاصب في بعض المواقع في استنساخ تجربة لورنس العرب حيث تبرز شخصيّة استخباراتيّة كانت في السّابق طبيب أسنان وهو ما يمكن تسميته لورنس السّجون فهو لا يكفّ عن إعطاء الوعود الآجلة ولا يقول كلمة لا أبدا وإنّما يفحص ويمحص ويصوّر لك الأمر على أنّه في صفّك وتاريخه يقول أنّه لم يعط شيئا واحدا وهو مثال العلاقة اليوميّة في السّجون ولا يمكن أن تسأل أسيرا فلسطينيّا عنه فينكر معرفته لأنّه موجود في كلّ مسألة تماما كحبر الكلمات ونقاط الحروف وقد حذّرنا منه ومن معسكره ولا زلنا فهو من أخطر الأسلحة الموجّهة للحركة الأسيرة في العقد الأخير.
ختاما يجب القول أنّ مسألة التّدخين هذه المتحدّث عنها ربّما أفلحت مع البعض ولكنّها في المقابل فشلت فشلا ذريعا مع الأغلبيّة حتّى أنّ معظم قادة العمل المقاوم والمنفّذين له هم من الأسرى المحرّرين، وهذا دليل على أنّ المحتلّ وإن طال ظلمه وكثر معاونوه إلى زوال وأنّه لا يمكن إخضاع النّفوس الأبيّة المؤمنة وإنّما يخضع ناقصو الكرامة والوطنيّة.