الجزء 2
بقلم: هبة الجندي
يتسلل الفرح إلى السجن مُحدثًا بهجةً وسعادة كما لا يفعل في أي بيت فلسطيني آخر، فبين تلك الجدران الأربعة نفوس آلمها الانتظار وأتعبتها قسوة الليل الطويل حتى أقبل الفرح أخيرًا على شكل عيد.
ليلة العيد
إنها ليلة العيد إذًا، وفيها تترقب الأسيرات إعلان أول أيام الفطر السعيد في جوٍ مؤثرٍ للغاية، إذ يتم تشغيل التلفاز على محطة فلسطين وبترقب وانتظار للإعلان الذي سيأتي على لسان الشيخ "عكرمة صبري"، فتقف إحداهنّ أمام الشاشة كطفلة الصغيرة تنتظر الخبر اليقين لتبتهج، وتجلس أخرى على البرش*، ولعل من أكثر الأمور الملحوظة فور الإعلان هو ردة فعل "الأسيرة الأم"، إذ تنتقل عيون الأسيرات إليها بشكل مختلف، فالأم لا تملك في تلك اللحظة إلا أن تشتاق لأطفالها الصغار الذين سيستقبلون صبيحة العيد دونها وستستقبله دونهم، تلك لوعة حارة في القلب تترجمها على شكل دموعٍ غزيرةٍ على وجنتيها.
فالأسيرة قاهرة السعدي من جنين كانت تجعل القسم كله يعتصر ألمًا وقهرا، إذ إنها كانت تقف ليلة العيد على باب الزنزانة وتبدأ بالتحدث لأطفالها الأربعة والنداء عليهم وهي تقول: "يمّه شو اشتريتوا للعيد؟ .. يمّه شو رح تلبسوا؟!" فتبكي قاهرة وتُبكي الجميع معها..
فتُسارع بقية الأسيرات للتسرية عنهن وإضحاكهن والتخفيف عنهن بشتى الطرق والوسائل، ولعل أبرز تلك الطرق هي صنع كعك العيد، إذ إن التحضير لصنع الكعك يبدأ بشكل مسبق بيومين؛ فالعملية ليست سهلة أو بسيطة وتتم في ساعات كما نفعل نحن في خارج السجون! فعلى الأسيرات إخراج لب الخبز منه وتفتيته ووضع ماء عليه حتى يصبح لينا كالعجين، ثم يضفن له القليل من السكر أو بعض السميد أحيانًا، وإن حالفهن الحظ بشراء التمر والجوز أضفنه حشوةً للعجين، وعملية الخَبز تتم على ما اعتدن تسميته بالبلاطة، وهي قطعة معدنية صغيرة يبلغ قطرها 15 سم، يتم وصلها بالكهرباء فترتفع درجة حرارتها مما يسمح لهن بتسخين الطعام عليها، وفي كل مرحلة يستطعن خبزَ 5 – 6 كعكات فقط!
وفي النهاية يحصلن على كعك قاسٍ كالحجر يليننه بالشاي صبيحة يوم العيد، ولكنهُ رغم كل شيء يبقى فرحةً تُضفي أجواؤها تسريةً جميلةً على الأسيرات في اليوم الأول، بالإضافة إلى أنه اليوم الموعود لأولئك الأسيرات اللاتي فزن بالمسابقات المعقودة في الشهر الفضيل ويتم الاحتفال بِهن وتوزيع الجوائز البسيطة عليهن في حفل صغير.
مواقف جميلة
لا شك أن الأسر يعتبر تجربة قاسية لما يخلّفه في النفس من ضغوطات وصعوبات كبيرة، ولكن الحياة بين تلك الجدران الأربعة تتزيّن أحياناً بمواقف جميلة، فتكون شرارة أمل بسيطة أو تسرية أتت في أوانها.
تعتبر المحررة أحلام التميمي الأسيرة الوحيدة -آنذاك- التي تم عقد قرانها أثناء فترة اعتقالها من الأسير المحرر نزار التميمي، واليوم الذي تتلقى أحلام فيه رسالة من نزار يكون يوم سعادة حقيقية لجميع الأسيرات، فالأمر ليس مقتصرًا على كونها تحمل بين يديها رسالة من الخارج، حيث يجهلن ما يحدث هناك، بل لأنها رسالة تحمل المودة والمحبة، وأي شيء أقرب شكلا إلى الحرية من الحب ؟!
تلك الرسالة كانت كفيلة بتحويل الزنزانة إلى حديقة مليئة بالزهور مفعمةً بالبهجة والحياة، فتترقب الأسيرات لحظة قراءتها، علّ أحلام تنقل إليهن خبرًا كتبه نزار لها يطمئنها ويطمئنهن حول ما يحدث وسيحدث.
إرادة وقوة
تختلف أحكام الأسر بين أسيرة وأخرى، فبعضهن قد تصل لخمسة أعوام أو ثلاثة؛ وبعضهن عشرين؛ أو حكم مؤبد لأخريات، ويريد الاحتلال بذلك أن يقتل إرادة الحياة فيهن ويجعلهن يعتقدن أنهن سيبقين في تلك الزنازين حتى انقضاء الأجل، فيأتي خبر عاجل في بضع كلمات مثل "المقاومة تأسر جنديًّا صهيونيًّا" فيكون كفيلاً بكسر كل قواعد المحتل وقلب موازينه، وهنا تنتصر الأسيرات، ينتصرن بالثبات وبالقوة، أو لربما ينتصرن بفضل دعوة زرعنها في ليلة القدر في الشهر الفضيل.
*الفراش- الذي تنام الأسيرات عليه