بقلم: مريم يحيى
حار العالم فيها فجادت بالكرم كأجود أنواع التمر، وقيل لينا هي شجرة صغيرة كثباتها ونشأتها في عرابة البطوف، بل هي الرفق واللين في غياهب البطش، فغدت نورًا أنار عتمة السجون.
في الحادي عشر من يناير عام 1974 ولدت في عرابة إحدى القرى الفلسطينية القريبة من مدينة عكا حيث نشأت هناك داخل الأراضي المحتلة عام 1948، لتحمل الجنسية الإسرائيلية وهي من أسرة فلسطينية مناضلة.
أبحرت لينا الجربوني في حكايات خالها الأسير المحرر حسين الجربوني والذي قضى 14 عاماً في سجون الاحتلال، أصغت لرواياته بشغف كأنها تقفز من نجمة لأخرى في فضاء الأمل لتنير شمعة البداية.
أينعت لينا على حب الوطن وأن هذا الدين لن يقوم إلا من الصفوف الأولى، كانت تمضي إلى المواجهات ضد العدو المحتل بجسارةٍ لا يمتلكها الرجال.
أخذت نصيبًا من العلم حتى إنهاء الثانوية، طمحت أن تنير العالم بنور فكرها لكن ظروف أسرتها الاقتصادية حالت بينها وبين إكمال دراستها الأكاديمية، سلكت سبل العلم والعمل معًا، فعملت في مشغلٍ للخياطة لتساعد أسرتها، كما قامت بحضور دورات تدريبية في مدينة الناصرة المحتلة لتحصل على شهادة "السكرتارية الطبية".
فَلَا تَهِنُوا وَتَدْعُوا إِلَى السَّلْمِ وَأَنتُمُ الْأَعْلَوْنَ
في عام 2002 كانت الأسيرة الجربوني تتابع أحداث الانتفاضة بغضب "كيف للعالم أن يقف أمام هذا الظلم؟!" لم تقف ناظرةً خالية الوفاض، فقررت دعم المناضلين في مخيم جنين من خلال تقديم شقق سكنية لهم داخل الأراضي المحتلة وتزويدهم بهويات إسرائيلية مزورة تسهّل تنقلهم بعيداً عن أعين الاحتلال.
"لا يمكن أن أخضع لهم"
اجتاح الاحتلال الضفة الغربية في عملية "السور الواقي" والتي زوّدت المحتل بخيوط تدل على عمل الأسيرة الجربوني النضالي.
اعتقلت الأسيرة لينا الجربوني في الثامن عشر من أبريل عام 2002، داهم الاحتلال منزلها في الساعة الثانية صباحاً ليعتقلها وشقيقها سعيد الجربوني بعد أن قام بتعصيب عينيهما، لتُنقل إلى سجن "الجلمة"، حيث استمر التحقيق معها لأكثر من 30 يومًا تخضبت بجميع أصناف الإهانة والتعذيب الجسدي والنفسي، من شبْحٍ وعزل وحرمانٍ من النوم، وتم استدعاء شقيقتها لميس أكثر من مرة، وفي إحداها تم الحكم على المحررة لميس بالسجن ثلاثة شهور، وكل ذلك بغية الضغط عليها وكسر صمودها.
عند النطق بالحكم طلب منها المحامي أن تعتذر أمام القاضي، أبت الحرة عندما سألها القاضي عن ندمها إلا الإجابة بصمود "لا"، أعلمَها أنه سيُصدرُ حكمًا بحقها، أجابتهُ: "أنت لا تصدر حكمًا بحقي، من يصدر حكمًا بحقي هو الله".
بَتَّ القاضي حكمًا بسجنها 17 عامًا وثلاث سنوات مع وقف التنفيذ وهو يتلذذ بعنجهيته ضاحكًا، لعلمه أن الحكم في حق الأسيرة الجربوني كان ظالمًا ولا يستلزم أكثر من ثلاث سنوات وفق قانون الاحتلال.
حين سُئِلَت الحرة عن سبب عدم الإصغاء لمحاميها أجابت: "لم أستطع، لا يمكن أن أخضع لهم".
حُرمت من جميع الامتيازات التي يتمتع بها السجين الأمني إلا أن صوتها صدح لتحمل لقب "عميدة الأسيرات"
قدرتها العالية على الحوار مع إجادتها اللغة العبرية خوَّلتها لمناقشة السجان بقوة والتأثير فيه لتحقيق مطالب الأسيرات رغم أنفه، لتصبح المتحدثة باسمهن في سجن "الشارون" منذ اعتقالها حتى هذا اليوم، لم تسمح الأسيرة الجربوني بالتعامل المباشر بين الإدارة والأسيرات حتى تحفظهن من مكائد السجان ومكره.
لم تكتفِ اللينة من تمثيل الأسيرات أمام إدراة السجون؛ فقد كانت تعمل على راحتهن داخل الأسر كما الطبيبة تتابع حالتهن المرضية؛ تضمد جراحهن وترافقهن إلى العيادة.
اعتنت الأسيرة الجربوني بالأسيرات القاصرات بشكل خاص، قدمت لإدارة السجون بإلحاح طلبًا لتدريسهن يومين في الأسبوع تعليمًا مدرسيًا، وحولت أقبية السجن لمدرسة حيث تكفلت بتعليمهن دورس الدين والتفسير والسنة النبوية واللغة العبرية وفن التطريز والخياطة.
المحررة منى قعدان تقول: "كانت لينا تعد الوجبات للأسيرات القاصرات، فتصحو كل يوم في الساعة الثامنة صباحًا تحضر لهن الحليب كما تفعل الأم…".
اتصفت الأسيرة الجربوني بالعدل ولم تُؤثر أسيرة على أخرى
تقول المحررة عطاف عليان: "أرسلنا ثيابًا للأسيرات من خارج السجن، وطلبنا من لينا توزيعها على أسماء محددة، فقامت بتوزيع تلك الثياب على الفتيات المحتاجات بغض النظر عن الاسم والانتماء الحزبي، ورفضت التمييز بين الأسيرات كعادتها…"، وتتابع: "لينا كانت تؤْثر زميلاتها على نفسها، كانت قبل أن تلبس أي ثوب جديد تعطيه للأسيرات ليلبسنه قبلها".
لينا المُعِينة لأخواتها الأسيرات في الأسر، في لحظات الحزن وترقب الأمل، فمن معينها اليوم؟
شهد عام 2006 أسر أحد جنود الصهاينة "جلعاد شاليط" من على دبابته في عملية "الوهم المتبدد"، كان هذا الخبر لساكني عتمة الزنازين موعدًا مع الحرية.
ستة أعوام والأسيرات يرقبن خَطَّ فجرٍ سيُحفر في ذاكرة التاريخ، رسمن فيها أحلامهن من جديد، ورسمت لهن لينا ولنفسها يوم عيدٍ منتظر.
الأسيرة لينا الجربوني: "عند خروجي سأقفل على نفسي باب غرفتي وأنام في حضن أمي ليومٍ كامل…".
دقت ساعة الحرية، إنه الوقت المنتظر، كانت قد أعدت لينا نفسها وشقيقاتها، جمعت أهم ما تملكِ من مقتنيات بغية رسم فصلٍ جديد لا يتخلله زجاجٌ.. قيدٌ.. وقضبان.
والدةُ لينا التي زرعت في ثنايا الحرة وأشقائها حب الأرض تستذكر تلك اللحظات فتقول: "عند حضور الصحافين إلى المنزل لسؤالي عن شعوري وانتظار عودة لينا.. أخبرتهم هل حقاً تصدقون كلامهم؟! لن يفرجوا عن ابنتي…"، لم تكن والدة الحرة فقط من تعي مكر السجان وحقده، أضافت فاطمة الجربوني: "قال لي شقيقي حسين كما قضيتُ الأربعة عشر عامًا، ستقضي لينا السبعة عشر عامًا لن ينقصوها يومًا واحدًا…" !
تصف المحررة قاهرة السعدي: "عند خروجنا بقيَت لينا وحيدة داخل الغرفة، لم أكن أريد تركها، قام السجّانون بسحبي، كنت أصرخ.. وهي كانت تصرخ.. لم أرد مفارقتها، كان السجانون يقومون بسحبي خارج القسم ولينا تقول لي: "اسأليهم لماذا؟ لماذا أنا أبقى هنا؟ لماذا نسوني؟ هل لأني من فلسطينيي 1948؟ أخبريهم أنني أريد أن أرى أمي قبل أن تموت، أخبري القيادات، لا تنسيني يا قاهرة".
تراجع الاحتلال عن الإفراج عنها وعن غالبية أسرى الداخل المحتل 1948 بحجة أن الصفقة لا تشملهم كونهم يحملون الهوية الإسرائيلية وهم قد خانوا الدولة.
رغم عدم الإفراج عن سيدة فلسطين؛ إلا أن عائلة الأسيرة الجربوني كانت سعيدة بنجاح الصفقة، المحررة لميس -شقيقة الأسيرة الجربوني-: "عند الإفراج عن الأسرى من السجون وذكر أسمائهم -رغم الألم الذي كنا نشعر به- إلا أنني قمت بشراء الحلوى وتوزيعها على الناس، فمن خرجوا من المعتقلات هم أبناء عائلات أخرى، كنا نبكي ونشعر بالسعادة في ذات الوقت…".
قبل خروج الدفعة الثانية من صفقة وفاء الأحرار كانت لينا قد كتبت الكثير من الرسائل عبّرت فيها عن وحدتها وألمها لتركها في السجون، ورغم محاولات كثيرة من قبل المفاوضين الفلسطينيين والوسيط المصري والأسيرات المحررات إلا أن حقد الاحتلال طغى على أن يفرج عن الجربوني في الدفعة الثانية، لم يتغلب الحزن الذي عاشته وألم وحدتها عليها، فبإرادتها وعزيمتها القوية لا زالت صامدة.
الجربوني .. صاحبة أطول اعتقال
بعد مُضي اثني عشر عامًا في السجون رُفض طلب الأسيرة الجربوني بتخفيض مدة حكمها، ففي السادس من يناير من عام 2013 رفضت لينا التعامل مع إدارة مصلحة السجون الصهيونية، احتجاجًا على رفض محاكم الاحتلال استئناف الحكم "ثلثي المدة" والذي قُدم من قبل المحامي، فمن المفترض وفق قانون الاحتلال أن يتم تخفيض حكم لينا للثلث، كونها تحمل الهوية الإسرائيلية، لكن الاحتلال الغاشم ينعق بقول ويبطش بآخر.
تدافَعَ الألمُ إلى جسدها فانتهز السجان الفرصة تلو الفرصة ليهدم إرادتها الصلبة وأنّى له ..
عانت الأسيرة الجربوني من حصوات المرارة، ولا زالت تشكو من صداع "الشقيقة" المتكرر، ومن آلام وانتفاخات في القدمين، رفضت سلطات الاحتلال تقديم العلاج اللازم لها لأكثر من عام ونصف وماطلت في سياسة الإهمال الطبي ضدها.
عند زيارة الأسيرة الجربوني لعيادة السجن كان الطبيب يحتسي القهوة رافضًا توفير العلاج بحجة انشغاله، قدمت الجربوني شكوى ضده مطالبة بتقديم العلاج اللازم لها، وعلى إثرها قامت بمقاطعة عيادة السجن لمدة ستة شهور.
في الخامس من يونيو 2013 هددت الأسيرات بالإضراب، وتدخل عضو الكنيست إبراهيم صرصور لتدهور صحة الأسيرة لينا فتقدم موعد عمليتها ستة أشهر، فخضعت لعملية استئصال المرارة في مشفى "كبلان-العفولة" وأعيدت بعدها مباشرة إلى سجن "الشارون".
لم تتسع الكلمات لعطاء ونبل أخلاق الأسيرة لينا الجربوني، امرأة فلسطين الأولى لعام 2015، لا زلنا نذكرك ولن ننساك يا شقيقة الرجال.. لكِ الحرية يا عنوان الحرية..