أدب وفنونحروف على أعتاب الحرية

ما أخطر السّجن إذا طال

 

بقلم : الدكتورة كفاح أبو هنود

إن كنت سأجد بقيّة عرقي في ثياب النّوم تحكي عن اختلاف الرّائحة بعد الأسر .. عن توقّف النبض في منتصف الليل ..
يا إلهي لماذا أفكّر بهذه الطريقة ؟! .. هل أخشى الحرية ؟! .. أم أنّ الشّوق لها جعلني مثل عاشق يستحثّ قلبه أن لا يتشاجر مع عقله وهو يطرح أوّل سؤال لحبيبته .. ثم  يخشى فجأة أن تفضحه ردود فعله المرتبكة .. كان لا بدّ أن أكون شجاعا لذا آسيت نفسي قائلا .. لا بأس ستحيك الأيّام كلّ الغرز في الجروح الغائرة .. ربّما .. لكن كيف سأُخرج هذا البرد الذي تراكم في داخلي .. كيف سأتوقّف عن النّظر إلى الجدران الفارغة ..

كيف يمكن أن أمشي خفيفا دون أن أجمع صورة السّجن في كلّ صورة خارج الأسوار ! .. ماذا أفعل بالحزن إذا داهمني كيف أستره .. كيف أخبرهم أنّ بعضي ما زال مختطفا .. ما أخطر السّجن إذا طال لأنّه يصبح قادرا على إيقاظ النّسيان ! .. على إيقاظ الأشجان ..


.. تنهّد قائلا ..  هل صحيح إذن ما قيل عن العزلة .. أنّها موضع الماء على النّار ! .. لا تنتهي إلاّ بتلاشي شيء فينا .. ربّما لن يكون الأمر بهذا السّوء ..  فالبعد عن الحرّيّة كان بمسافة الكبرياء التي لم تنهزم في برودة السّجن .. بمسافة الصّبر التي كانت تنتظر صباح الخير لمن لم يغتلهم القيد .. بمسافة المقاومة للرّيح التي ظلّت تعبث بالأغصان وتعجز أن تكسرها .. بوهج قناديل الفرح التي لها تاريخ مع الأسى .. بمدى المسافات المزهرة التي عبّدها الدعاء في السحر .. وبحجم آلاف البساتين التي نبتت من الذكر ولا حول ولا قوّة إلاّ بالله .. و بكل نهار كان يستند على حسن الظّنّ بالله رغم فراغ أكواب القهوة من نبوءة مبشّرة ! .. طوال اللّيل كنّا نلثم السّجود ونمدّ أعيننا في الصّباح ننتظر مداهمة الفرج .. وفي المساء كنّا نعود إلى باب الله وننتظر .. وكان هو يهرول إلينا !  ..  لذا لا بدّ أن نتعلّم كيف نتصالح مع النّسيان ..  وأن ندرك أنّ تلك السّنوات كانت الملائكة تقيس فيها المسافات بالشّهقة والأنين وتضع النّقاط على حروف الصّبر وتجمع لك الوجع مثل عطر تغلقه في قارورة وتختم عليه ثم ترسله إلى المدن المنكوبة في صدور الأسرى .. هذه المدن في ظاهرها الحزن وفي باطنها وثيقة الفردوس !  


كان السّجن يضجّ بالحركة ولا أحد قادر على النوم .. البعض كان في حالة استعداد مدهشة مثل ورقة في تقويم جديد يستعد للبداية الصاخبة … صوت الذهاب والإياب لم يتوقف وكمية من الحديث المتدفق لم تهدأ وفرح مشبوب بحزن داخلي في عيون تكاد تغرق بأمنية الخروج .. تمتلىء الغرف بالضحكات المحشوة بمرارة مبهمة .. يحدق الباقون في المغادرين كأنهم لحظة خيال ستنتهي .. كأن السابق ينزلق بسرعة من أيدي السّجناء الباقين إلى واد من ذكريات الأيام الماضية .. هل سمعت يوما بتوأمة الفرح والحزن .. تلك لحظة لا يفهمها إلاّ الأسرى !


لماذا تشدّني الآن بحّة صديقي .. لماذا يبدو الوداع لهم مثل حداد .. لماذا تبدو اللّيالي التي قضيتها معهم مثل دين أحمله إلى الخارج .. لماذا أعجز اللّيلة عن مراسم الفرح ! ..


هل تلك هي ضريبة الإنسانيّة .. أن السلام لا يكون متجزّئا .. لا يحلّ له أن يكون في بقعة دون الأخرى ..  ولا يحلّ لي أن أقول صباح الخير لأمّي .. دون أن ترتعش كلّ الأمهات لهذا الفرح … لهذا حين خرجت كنت نصف محرّر ونصف أسير .. ظلّت رائحة الأصدقاء تغلبني … ظلّت هالات عيني تذكّرني بالجوع الذي تقاسمناه .. ظلّت ارتجافة البرد زخم الحنين لأيّام المعاناة … وظلّت أعمدة الإنارة في شوارع القرية تحيلني كلّ ليلة على الذين لا يسهرون إلاّ مع ذكرياتهم .. إلاّ مع الانتظار !

 

 

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

تعليق واحد

  1. كلمات معبرة جعلتني اعيش وكأني معهم في تلك اللحظة…
    فك الله اسرهم جميعا، ففي تلك اللحظة فقط سيختفي الحزن من توأمين الحزن والفرح ويفسح للفرح المجال

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى