عين على السجونواقع السجون

التّعليم في السّجون تحدّ للسّجّان وذخر لما بعد الحرّيّة 2

م. بلال استيتي

التّعليم في السّجون انتصار على السّجّان عبر تاريخ النّضال الفلسطيني من أجل التّحرير والخروج من بوتقة الاحتلال للأرض والإنسان، إلى أفق الحرية وعودة الحقوق المسلوبة إلى أهلها ممن اغتصبها قهرا وظلما، كيف لا والثروات الجوفيّة لفلسطين توجد في عقول أبنائها وثقافاتهم وعلمهم وتميّزهم في مختلف المجالات.

منذ بداية الاحتلال وجدت السّجون التي تعمل جاهدة على ثني الفلسطيني عن مقاومة المحتلّ من أجل أن ينساها، أو يرضى بالأمر الواقع الذي رسمه الاحتلال لأهلها، حيث أبدع الفلسطينيّون في تحويل السّجون إلى قلاع ثورّية وتعليميّة وبناء قيادات، إدارت المعركة ضد المحتل وما زالت، وتعلّمت داخل الزّنازين ومن داخل القهر تولّد الإبداع لديها لتقاوم بكلّ شيء داخل المعتقل وخارجه.

منذ سبعينيات القرن الماضي خاض الأسرى إضرابات من أجل الحصول على حقهم في التعليم وإدخال الكتب التعليمية والثقافية الى داخل السجون عن طريق الصليب الاحمر الدولي أو زيارات الأهالي، حيث لا يؤخذ شيء من المحتل الا بالدم والعناء والبطولة والثبات على المطالبة في الحق، فسمحوا بعدها باجراء امتحان الثانوية العامة الفلسطيني المعروف بالتوجيهي داخل السجون بصعوبة و بآلية معقدة وتضييق مستمر على الأسرى .

وبعد عدة إضرابات ومطالبات من الأسرى للمحتل الحاقد تم الحصول على الموافقة من اجل تقديم الاسرى شهاده الثانوية العامة قبل مجيء السلطة الوطنية الفلسطينية عندما كان التعليم بأيدي الاحتلال ، حيث يتم إدخال الكتب بواسطة الصليب الاحمر الى السجون ، وتتم آلية التقديم بأن يتم إدخال المعلمين المراقبين بعد التدقيق الامني لهم في ايام الامتحانات للسجون من أجل تقديمها للأسرى والحصول على دفاتر الامتحانات ، ويتم تصحيحها بالخارج والحصول على النتائج ، ويستطيع الأسير بعد خروجه التقدم للجامعات الفلسطينية والعبريّة من اجل اكمال دراسته الجامعية.

ويعمل الأسرى على اختيار أصحاب الشهادات العليا والمدرسين ممن كتب عليهم العيش بالاسر من أجل تدريس غيرهم من الأسرى ، و إفهامهم المواد الدراسية المختلفة وفق برنامج تدريسي يوضع خصيصا من اجل حصولهم على شهادة الثانوية العامة، ويكونون مؤهلين للدخول الى الجامعات فيما بعد.

وبعد مجيء السلطة الوطنية الفلسطينية في بداية تسعينيات القرن الماضي عمل الرئيس الفلسطيني الراحل ياسر عرفات على تأسيس وزارة الأسرى والمحررين والتي أعطت أهمية كبرى لموضوع التعليم للأسرى في السجون والأسرى المحررين، بان وفّرت لهم ولزوجاتهم خصومات كبيرة في الدراسة بالجامعات الفلسطينية، وفي داخل السجون عملت على تنظيم الحصول على شهاده الثانوية العامة بشكل اكبر وسنوي ، وعلى التنسيق مع قيادات السجون من أجل الرفع من المستوى التعليمي للأسرى ، والحصول على اعلى الدرجات العلمية ، وبعد بقاء أعداد كبيرة من الأسرى أصحاب الأحكام العالية بعد اتفاقية اوسلو ، و رفض الاحتلال الإفراج عنهم ونتيجة اضرابات ومطالبات عديدة وافق الاحتلال على السماح لهم بالدراسة عن بعد في الجامعة العبرية في القدس.

وقد تكفلت وزارة الأسرى والمحررين التي تحولت منذ سنوات قليلة الى هيئة الأسرى والمحررين ، بالمتطلبات المالية العالية للدراسة في الجامعات الصّهيونيّة وتكلفة الكتب والتي عن طريقها تعمل سلطات الاحتلال على التقليل من عدد المتقدمين للدراسة وأصبحت مصدرا للربح من الأسرى ، وحصل العديد من الأسرى على درجات البكالوريوس والماجستير من الجامعة في العلاقات الدولية والدراسات الصّهيونيّة وغيرها من التخصصات القليلة التي تسمح بها إدارة السجون من أجل إكمالها ، والدراسة باللغة العبرية وبعضها باللغة الانجليزية ، وكانت أكثر الدراسات الجامعية في السجون المركزية التي يتواجد بها الأسرى ذوو الأحكام العالية والمؤبدات تتمّ بان يدرس الأسير عن بعد لوحده او ياتي شخص من الجامعه مرة في الشهر وقت الامتحان ، وكان الجهد كبيرا ، وكان ابداع الأسرى بان يقوموا بعمل خلية نحل من أجل تدريس المساقات المختلفة لبعضهم البعض في سبيل النجاح في الامتحانات والحصول على الدرجات العلمية المختلفة ، ومنذ فترة قليلة عملت ادارة السجون على منع الأسرى من اكمال دراستهم في سجون الاحتلال ، حتى الثانوية العامة توقفت لسنوات كنوع من العقاب الجماعي بعدما كان فرديّا لاسرى معينين من أجل الضغط عليهم لتقديم تنازلات في حقوقهم والضغط على الفصائل الفلسطينية المقاومة في الخارج .

وهناك الكثير من الأسرى ممن تم الإفراج عنهم او ينتظرون فرج الله القريب حصلوا على أعلى الدرجات العلمية ، ومنهم من سعى إلى أخذ درجة الدكتوراه وتحدّى السجان مثل الدكتور ناصر عبد الجواد الذي حصل على درجة الدكتوراه وهو داخل السجون وناقش رسالته عبر جوال مهرب من داخل الأسر ، وهناك من اكمل دراسته وتعاونت معه الجامعه من جامعاتنا الفلسطينية مثل جامعة النجاح ، وكان قد بقيت له عدة مواد او مادة واحدة ، ومنذ سنين قليلة وبسبب مطالبات متعددة أصبحت عدة جامعات وكليات في قطاع غزة تسمح بإعطاء درجات علمية للأسرى وهم في داخل السجون الصهيونية، بعد التأكد من حصولهم على التدريس من الأسرى الذين يمتلكون درجات علمية متخصصة ، فمنهم من حصل في العلم الشرعي او التاريخ او غيرها من التخصصات ، حيث كان يتم إدخال الكتب عبر زيارات الاهل او الصليب الاحمر وتعقد جلسات تعليمية خاصة لهم بالإضافة الى الجلسات الثقافية التي يقوم بها الأسرى بشكل دائم في السجون المختلفة.

فعمليّة الدراسة في سجون الاحتلال معقدة حيث يعمل الأسرى على إيجاد الأفكار الإبداعية ومساعدة بعضهم بعضا فيها ، وهناك أمر جميل بان يحصل الأسير على امتحان التجويد للقران الكريم ويحصل على الشهادة من وزارة الأوقاف الفلسطينية ، حيث تقام الدورات وتجرى الامتحانات بشكل دوري ، وكذلك دورات في الإسعاف الأولي وغيرها ، ممكن ان يحصل على شهادة من الهلال الأحمر الفلسطيني ، وهناك دورات يا حبذا لو يحصل الأسير على شهادة التحاق بها، حيث تساعده بعد خروجه في الحصول على عمل في الإدارة والمحاسبة أو التّنمية البشرية او غيرها من التخصصات ، والتي كان لي الشرف بانني درست جزءا منها ودراسته في سجون الاحتلال.

موضوع التعلم في سجون الاحتلال يحتاج الى دراسة كاملة لا يكفيها مقال واحد ، وهناك الكثير من الأسرى الذين أبدعوا في تعلمها وتعليمها لغيرهم ، وفتحوا مراكز تدريبية وبحثية مختلفة لإفادة المجتمع الفلسطيني بشكل كامل ، وتعلموا أنّ الإيثار ومصلحة الوطن اهم من مصلحتهم الشخصية.

ان ابداع الأسير الفلسطيني في التعلم هو نوع من التحدي للسّجّان بانه مهما كان حكمه ، سينتصر عليه يوما ما وسيخرج وسيبني وطنه ، وسيكون من دعامات بناء دولة قائمة على الحق والعدل بدلا من كيان مسخ محتل لبلده ، وسيتحقق قريبا رغم كل العتمة التي في الطريق فالنور يبزغ بعد عتمة الفجر.

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى