عين على السجون

نفحة الشهداء يتكلم

 

بقلم: ضرار الحروب

تعددت همجية المحتل الصهيوني وساديّته بحق أبناء الشعب الفلسطيني جاهدًا في القضاء عليه وإذابته، فتجاوز بانتهاكاته كل القوانين والأعراف ضاربًا بعرض الحائط كل قيم الإنسانية والبشرية جمعاء، مجسدًا عنصريته العرقية والدينية لتكون شاهدًا على كيانٍ أقيم بالبطش والتجبر، وحكاية السجون في كل الكيان الصهيوني جزء من الأداة القمعية في الفتك والنيل من الشعب الفلسطيني وكل من يعشق الحرية والانعتاق من الظلام.

 

وعند الحديث عن تلك السجون (الباستيلات) والاقتراب منها تشعر بعمق المعاناة والموت اليومي البطيء الذي يعيشه الأسرى، والحديث عن سجن نفحة الصحراوي يجعلك تشعر بالقشعريرة التي تجتاحك، لا لوقوعه وسط الصحراء اللاهبة، ولا لأنه مكانٌ للقهر وسلب الإنسان من إنسانيته، أو لكونه على شفا عالمٍ مجهول الأوصاف "لكوكب نفحة" كما يسميه بعض الأسرى، بل تقشعرُّ لكون تلك الجدران الصماء قد أكلت مئات السنوات من أعمارهم وأبقتهم في منازل الأحياء الموتى، لا هو بالحياة يطمح ولا بالموت يستريح، فكانت تلك السياسة الصهيونية بالقتل مع سبق الإصرار محاولة لقتل الإرادة وتسللها للجسد الثوري المقاوم في شخصية الأسير، وكما قالها أحد القادة الأمنيين الصهاينة "جدعون عيزرا": "إن قتلنا الفلسطيني مباشرة سيصبح قديسًا يحتذى به، ولكن سنقتله بالموت البطيء". في ظل تلك الهجمة المنظمة والمدروسة على إرادة الأسير الفلسطيني تجلى الصمود بأبهى صورته الملحمية في تضحية نادرة النظير، فقهرهم الأسير بإرادته فأضحى مثقفًا عابدًا قائدًا رغم أسوارهم وقضبانهم والسجان الصلف اللعين.

 

يبعد سجن نفحة الصحراوي 100 كم عن مدينة بئر السبع و 200 كم عن مدينة القدس ويعتبر السجن من أشد السجون الصهيونية وأقساها، ولا غرابة في ذلك إذا عرفنا أنه استحدث خصيصًا للمعتقلين من القيادات الفلسطينية لإخضاعهم للموت التدريجي، وعزلهم عن بقية السجون الأخرى.

 

يخرج المعتقلون إلى "الفورة"* مرتين في اليوم صباحًا ومساءً لثلاث ساعات يوميًّا بالإضافة إلى ساعة رياضة صباحية، ولا تتجاوز مساحة الفورة (100متر مربع) تحيط بها جدران إسمنتية سميكة يصل ارتفاعها إلى نحو 6 أمتار يعلوها شبك حديدي.

 

وثيقة أسرى نفحة ،، كلمات كتبت بالدم

وللتعريف أكثر بهذا السجن، نضع بين أيدي القراء الوثيقة التي كتبها معتقلو سجن نفحة يوم السابع من يوليو عام 1980، والتي كانت بداية إضرابهم الطويل عن الطعام والذي امتد ليشمل معظم السجون الأخرى، وأسفر عن استشهاد اثنين من المعتقلين الفلسطينيين، وفيما يلي جزء من نص الوثيقة:

 

"يا أهلنا، يا شعبنا في الوطن المحتل، يا أيها الإنسان أيما كنت في كل مكان، أنقذوا أرواحنا فنحن نُقتَل عمدًا مع سبق الإصرار بحربة ما يسمى "القانون" … طالبنا ولا زلنا نطالب بتحسين شروط حياتنا، وأن نعامل بنفس الشروط التي ينالها أي سجين يهودي أمني مهما كانت تهمته! إلا أننا لم ننل في أي من معتقلاتنا الأمنية -حتى الآن- هذا المطلب العادل البسيط، هذا مع العلم بأن مدير السجون "حاييم ليفي" قد صرح في بداية هذا العام أن أحوال السجون -الخاصة باليهود- "مأساوية وكارثية"! إذا كنا نطالب بالمساواة مع أوضاع يصفها مدير السجون نفسه بـ"مأساوية وكارثية" إذن ما هي أوضاعنا؟! إن هذا السؤال سيثير استغرابكم، ولكنه من صلب الواقع الذي نعيشه… يومًا ما التقى أحد ثوارنا مع الجنرال "حاييم ليفي" وطلب منه أن نعامل أسوة بالمساجين اليهود، فكان رده: "لن نعطيكم نفس حقوقهم، إنهم أولادنا…"!

 

تذكر الوثيقة أيضاً أن الناظر إلى هندسة هذا السجن يدرك بوضوح حقيقة العقليات الحاقدة التي صممت وساهمت في تشييد هذا المعتقل الذي يمثل مدرسة التعامل مع الإنسان الفلسطيني في المعتقلات! فالسجن في قلب الصحراء بعيدًا عن أي عمران أو مظهر حياة.

يتساءل الأسرى في الوثيقة: "أين تعطى شروط تهوية شبيهة بما لدينا؟! أبواب صفيح، زنازين بلا نوافذ، ازدحام مؤلم، ومعاملة لا إنسانية!".

 

يمكننا أن نتخيل مقدار الألم والعذاب الذي يُكال للأسرى هناك حين يتكلم مدير سجن نفحة متباهياً فيقول: "إننا نعطيهم الحد الأعلى من المضايقات، والحد الأدنى من شروط الحياة، هذه هي الأوامر"!

 

ويسرد الأسرى في وثيقتهم حوارًا دار بينهم وبين مدير الشؤون الصحية بمصلحة السجون الدكتور "كوهين":

–         دكتور كوهين، أنت مدير الشؤون الصحية بالسجون، لا توجد نوافذ في الغرف، الباب عبارة عن صفيح مغلق لا يُنفِذ الضوء ولا الهواء … 13 سنة ننام على الأرض، الأمراض توطنت فينا، باختصار شروط لا إنسانية، شروط أدنى من شروط الحفاظ على حياة الإنسان، كيف تسمح بذلك وأنت المسؤول الصحي الأول؟!

–         الشروط من فوق، من فوق!

–         نتحدى أن تضعوا سـجينًا يهوديًّا في مثل هذه الأوضاع، بل نتحدى أن تضعوا 10 أبقار في نفس المساحة المحدودة وهذا القدر المحدود للغاية من الهواء! أعطونا شروط السكن التي تعطى لأبقاركم في زرائب "الكيبوتسات" من هواء و نور!

–         الدكتور لم يرد وسار بعيداً!

 

كما جاء في الوثيقة أن وفداً كبيراً من أعضاء الكنيست قَدِمَ لزيارة المعتقل وتفقدوا إحدى الغرف فووجِهوا باستياء الأسرى من الشروط السكنية والحياتية اللاإنسانية في المعتقل فأجاب الوفد: "خليك سبع يا سبع، كان عليكم أن تفكروا بهذا الأمر قبل مجيئكم"!

 

ومن خلال هذه الوثيقة يطالب الأسرى بإشراف جهة دولية محايدة على معايير سجن نفحة: "نعلن أننا على استعداد لقبول رأي أية جهة محايدة في شروط البنيان أو شروط الحياة، نحن نطلب منكم أن تقفوا معنا.."

 

وفي ختام الوثيقة يعلن الأسرى بدء إضرابهم عن الطعام بعد أن فشلت ونفدت كل محاولاتهم ومناشداتهم لمصلحة السجون والهيئات الدولية والقانونية دون جدوى، تقول الوثيقة: "سيصلكم هذا البيان وهو موجه لكل منكم باسمه لتكونوا معنا، نطالبكم بالتحرك معنا، فهذا حقنا عليكم، إضرابنا المفتوح عن الطعام يزداد قوة بوقوفكم معنا، إنه سلاحنا الأخير، إننا في نفحة لم نلجأ لآلام الجوع القاسية لأنها ترف؛ نعلم مدى المعاناة، إلا أننا لا نملك البديل، إنها مسألة حياتنا أو موتنا … إن لنا حياتنا، التي هي جزء من حياتكم، ولهذا فقط سنحافظ عليها، وسننتزع الحد الأدنى لبقائها بين ظهرانيكم، لم نطلب معاملة إنسانية كاملة، بل نطلب معاملة يعترفون هم أنها "مأساوية وكارثية"! … والآن نعلن بأننا نريد مقايضة حفنات من الهواء والضوء الطبيعي بكميات هائلة من دمنا ولحم أجسادنا! …" هكذا خُتمت وثيقة أسرى سجن نفحة الصحراوي، والتي كشفت حجم المعاناة والعذابات هناك، وتستمر المعاناة..

 

ليتخضّب سجن نفحة بدماء الشهداء الزكيّة ويصبح بنفحة الشهداء الأسرى:

علي الجعفري، راسم حلاوة، جهاد عمرو، وشادي الصعايدة.

 

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى