مذكرات أسيرواقع السجون

من برش الخطوبة إلى برش الإنجاب

  بقلم : محمد عتيق

 

جعلته سنوات الأسر كهلا في ريعان شبابه، وقد قيّدته السّلاسل في ربيعه التّاسع عشر في شهر تشرين الأوّل من عام ألفين واثنين، لم يكن ذاك الرّبيع كأيّ ربيع من عمره فخريف ذاك العام قد أذبل ربيعه. نكّلت به سنوات الأسر  كشجرة أذبل الخريف أوراقها وتساقطت، وبقيت في مهبّ الريح عارية تنقله من سجن إلى آخر كما تنقل الرّيح أوراق الشّجر المتساقطة، نقلته بين كافّة السّجون الصّهيونيّة في الأراضي الفلسطينيّة من شمالها إلى جنوبها بدءا من سجن مجدو إلى أن حطّت به البوسطة في سجن النقب في أواسط عام 2008، حتّى نبت ربيعه من جديد وأفرج عنه عام 2011، إنّه الأسير محمود أحمد عبيدي من بلدة برقين غربي مدينة جنين.

استقرّت آخر سنين حياته الأسيرة في سجن النقب بعدما ذاق ألم القيد وجراح السّلاسل وظلم الزّنازين، التحق خلالها بالجامعة الإسلاميّة، وتخرّج بدرجة دبلوم في  الخدمة الاجتماعيّة فكانت هذه أولى إشراقاته وأولى براعم ربيعه الذي بدأ يشقّ الأرض ويخترق الأسلاك الشّائكة، وأزهر الرّبيع بزهور خرقتها الأسلاك الشّائكة، وحجبت الجدران الطّويلة أشعّة الشّمس عنها، إلاّ أنّها واصلت ازدهارها وواصلت التّفتّح، فكانت بدخوله القفص الذّهبي من على برشه في خيمة الاعتقال في سجن النقب يوم السّابع من تشرين الأول عام 2010 كانت قراءة فاتحته وإعلان خطوبته على ابنة خالته  من داخل سجنه مباشرة عن طريق الهاتف لتبدأ قراءة الفاتحة مع عائلته وعائلته خطيبته ومجموعة من الأسرى القابعين في خيمته آنذاك، ومنذ منتصف تلك اللّيلة لم يعد السّجن كما كان ولم تعد الحياة كما كانت فقد زادت همومه واحدا آخر.

لم يكن برد كانون الأوّل قارسا، بخّره حنين عقد القران الدافئ في السّابع عشر من الشّهر ذاته، بعد ما وصلت  وكالة لوالده لإتمام إجراءات الخطوبة في المحكمة الشّرعيّة عبر الصّليب الأحمر فتمت إجراءات عقد القران بعروس دون عريس.

وفي صيف  عام 2011 كان لهيب  شهر حزيران وصحراء النّقب يشعلان لوعة الاشتياق والحرّيّة إلا أنّ جفاف اللّهيب وعلقم زوابع غبار النقب وضيق التّنفّس من استنشاقها أشبه بحالته، حان موعد الإفراج عنه ليتفاجأ بقرار صادم بإغلاق ما يسمّى بقرار المنهيلة وهو خصم 7 أيام لكلّ أسير على 6 أشهر. كانت قسوة هذا القرار أقسى من 9 سنوات قضّاها خلف الأسلاك الشّائكة كان كلّ يوم يقضيه يتذوّق مرارة 9 سنوات قضّاها، كان ينتظر الصّباح كلّ يوم ليجلس على باب المعتقل ينتظر خبر إفراجه… كلّ يوم تجتمع بداخله آلام تسع سنوات في المعتقل وآمال الحرّيّة كلّما خطا سجّان خطوة نحو بوّابة المعتقل، مشاعر خوف من انتقاله إلى عالم لم يعرفه بعد كأنّه يولد من جديد سينتقل إلى عالم لم ينتظره في خريف عام 2002 ولم تستطع مخيّلته أن تقوده إلى عالم سبقه تسع سنوات في عالم الحرّيّة، 51 يوما عجاف مرّ بها ومشاعره مختلطة يشعر بفصول السّنة الأربعة في اليوم الواحد حتّى تنسّم نسمات الحرّيّة.

لم يكن اليوم الأوّل من رمضان كأيّ رمضان مضى منذ تسع سنوات، لم تكمل السّلاسل يومها الأول في يدي الأسير عبيدي، كانت المشاعر المتناقضة تنتابه وهو يسير في الهواء الطّلق وتحت أشعّة الشّمس بخفّة يديه ورجليه فقد ولّى زمن القيود، فأصبح الآن تحت السّماء التي لا تقسمها الأسلاك الشّائكة، ونسمات الهواء الطّلقة التي لا تمنعه الجدران، واستقبلت بلدة برقين ابنها الغريب عنها، عاد ليبحث عن قريته التي تركها ليسكن فيها، وعن تشرين الذي غادر منه ليكمل حياته منذ غادر، عاد عن عامه التّاسع عشر، فمخيّلته خلال التّسع سنوات كانت غير قادرة على أن تقوده إلى عالم الحرّيّة، ومن ناحية أخرى عاد لينتصر على عالم مجهول لديه، مختلف عن عالم الأسلاك والجدران مختلف عن القيود والسّلاسل، عاد إلى هذا العالم ليؤسّس حياة بعيدة عن حياة تبدأ بتشرين الذي بحث عنه، عن حياة يؤسّس فيها عائلة وحياة كريمة ، وفي نهاية تشرين الأوّل عام 2011 دخل عشّ الزّوجيّة، وليس كأيّ شابّ فهو ما زال طفلا صغيرا يبحث عن معنى الحياة ويكتشفها، فصدمة الحرّيّة مازالت مسيطرة عليه لأن تغيّرات الحياة كانت أصعب من أن يتقبّلها بسهولة.

العام يمرّ تلو العام، وما زال الأسير العبيدي يتماشى مع الحياة كلّما مر يوم يسهل عليه التّأقلم مع الحياة، وما إن مضت أربع سنين في نهاية حزيران  الذي شابه حزيران 2011،  ومنتصف رمضان من عام 2015 حتّى كان رمضان على عكس ما عرفه قبل أربع سنوات، فعندما  كان يهيّئ نفسه لتناول السّحور، كانت طرقات أكعاب البنادق على باب بيته أسرع من تناول السّحور. كان المحرّر على موعد مع الأسر، ليعاد اعتقاله وتعاد حكاية الأسر والقيود.

تمضي الأيّام تلو الأيّام والشّهور تلو الشّهور حتّى جاء شهر كانون الثّاني ، حاملا له دفء الحنين ولن يختلف جوهريّا عن كانون الأول قبل خمس سنوات، فهناك خيمة وبرش  وهنا زنزانة وبرش، وفي الثّالث والعشرين من الشّهر نفسه حينها كنّا سويّا في سجن مجدو قسم 4 عندما علمنا بقدوم ابنته البكر لين عن طريق إحدى رسائل الأسرى برنامج شؤون الأسرى الذي يبثّ من إذاعة صوت النّجاح، غمرتنا فرحة حينها، فقد رزق بها قبل أسبوع من الموعد المقرّر لولادتها، من شدّة سعادته بدأت ملامح الارتباك عليه فرحا لقدومها وألما لبعده عنها، وأتمّت عامها الأوّل وما زال خلف الأسلاك الشّائكة داخل زنزانته.

 

 


 

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى