
بقلم : عدنان حمارشة
حلقات متسلسلة عن الأسير “بسّام السّايح” من مدينة نابلس والمصاب بسرطانين اثنين، الأوّل سرطان في الدم والثاني سرطان في العظم وكذلك مرض في القلب والكلى وانسداد في الشرايين وضعف في الهيكل العام وضمور في العضلات والتهاب في المفاصل والتهاب في الأوتار الصوتية وضعف في الرؤية .
وكل هذه الأمراض أفرزت ما يلي:
عدم القدرة على المشي فهو الآن على كرسي متحرك، آلام لا تنتهي في العضلات وفي الرأس والقلب والآلام تمتد حتى الشرايين فضمورها مؤلم وكذلك فإن ضعف الرؤية أصبح مزعجا وقدرته على السماع قلت وصوته أصبح كأنه حشرجة وليس صوتا مفهوما، فإن أردت أن تستمع لما يقول فعليك أن تحتضنه وتضع أذنيك ملاصقة لشفتيه حتى تفهم ما يقول.
هذا بسام المريض الذي يعاني من كل هذه الأمراض حتى أصبح شبحا لا يزن أكثر من أربعين كيلو غراما، ولم يبق منه إلا جسد، حتى إنك لا تعرف مصدر الأنين فهو لا يحرك أجزاء جسده عندما يتألم، فكل أعضاء جسده خانته ولم تعد تتجاوب معه إلا تلك القطعة التي تمده بالأمل والحياة وتجعل قادرا على الابتسام .. إنها قلبه .
نعم، هذا بسام الأسير المريض فماذا عن بسام الإنسان، بسام صاحب الإيمان والإصرار ..
بسام الإنسان في حلقات سنعيش بحر عطائه الذي لم ينقطع وكل هذه الأمراض تحاصره ليل نهار ..
(( الحلقة الأولى ))
مع أنه ولد في مدينة نابلس فإنه ابن فلسطين كلها، عاش حياته وأخوته مجاهدين . لم يفكر يوما أنه سيتم اعتقاله وهو يدخل إلى قاعة المحكمة في معسكر سالم الصهيوني القريب من مدينة جنين والمقام على امتداد سهل مرج ابن عامر، حيث تجري محاكمة زوجته المجاهدة “منى السايح” التي ضربت المثل الأجرأ في الوقوف أمام شياطين الصهاينة في مركز تحقيق الجلمة، وأمام قضاة فاسدين لا يعلمون عن العدل شيئا .
لكن هذا ما حصل، تم اعتقاله بالطريقة الأمثل التي يعرفها الاحتلال، الطريقة الهمجية، وكنت قد سألته عن طريقة اعتقاله … فقال لي وهو ينظر إلى سقف الفورة والساحة، وكأنه يرى في شبك السقف المربع فيلم اعتقاله :” كنت عرفت وقت محاكمة منى في وقت متأخر وكان يجب علي في نفس اليوم أن أذهب إلى المستشفى لأخذ جرعة كيماوي، لم أستغرق كثيرا في التفكير فقد قررت وبلا تردد أن أذهب إلى محاكمة منى، وبالفعل نمت ليلا وأنا أرسم خطواتي في الصباح .. أني سأذهب فماذا سأقول لها عندما أراها…
كان شاقا جدا على نفسي أني أنعم بالحرية وهي تعاني في الزنزانة، وفي التحقيق، وكلما فكرت أكثر بهذه التفاصيل جن جنوني، ولم أعد أستوعب شيئا. وأتى الصباح، لم أنم في اللّيل إلا دقائق متقطعة، وقمت مرهقا وكأني أحمل هم السنين كلها، ومع ذلك وقفت أمام مرآتي ومشطت شعري كي تراني بالطريقة التي تعجبها .. فلا أقل من أن أجعلها تسرّ لرؤيتي، وأخرجت من الخزانة ملابسي التي كانت تحب أن ألبسها كلما ذهبنا إلى مناسبة معينة.
وهكذا انطلقت من نابلس باتجاه جنين وجلست في السيارة والآلام تغزوني، فقد بدأ مفعول “الكيمياوي” الذي أخذته في الجلسة قبل يومين ينتهي، وكان موعد الجلسة هذا اليوم، إلا أني أصررت في نفسي أن أرى منى وأكون في جانبها ولو بضع لحظات، كنت فقط أريد أن أراها، أن أجعلها تشعر أني ما نامت عيني للحظة إلا وكانت هي بين جفوني وفي سويداء القلب، كل آلام الأمراض لم تكن مثل ألم فراقها، هي التي عاشت معي في السراء والضراء، وهي التي دخلت إليها يوما ولم يكن في بيتنا ما نأكله إلا أقل القليل .. فقالت لي ضاحكة : ولا يهمك، يكفي أنك هنا، فأنت أفضل من الأكل بالنسبة لي.
آلام فراقها جعلتني أتذكر اللحظات التي كنت أقترب فيها من الموت، كانت تقترب هي مني أكثر، وكأنها تصارع الموت حتى تفوز هي بي، وكأني كنت أظن أنها مني حتى تكون أقرب إلى نفسي حتى نفسي التي بين جنبي.
كل هذا أعدت رؤيته كشريط مصور على زجاج شباك السيارة، وفجأة تغير الجو، وزادت الرطوبة وانتبهت إلى أني أصبحت على أطراف مدينة جنين وبدأ يمتد أمامي سهل مرج بن عامر، وما هي إلا دقائق حتّى كانت السيارة قد وصلت إلى حاجز سالم الصهيوني أين ستكون منى في المبنى المقابل، والذي يحوي على عدة قاعات منها قاعات المحاكم التي تتم فيها محاكمة الفلسطينيين الموقوفين، وطبعا الموقوفات أيضا.
كنت أتوقع أن تكون الإجراءات سيئة خاصة أني أسير سابق، وكنت أظن أن الحرّاس قد لا يسمحون بدخولي إلى المحكمة بسبب كوني أسير سابق، إلا أني استغربت، حال وصولي إلى البوابة أنّ الحراس يفتحون الباب ويأخذون هويتي، ويشيرون لي بالسماح بالعبور إلى داخل المبنى، وبالفعل دخلت، ولكن اقتادوني إلى ممر طويل، ولم يكن نفس الممر الذي أدخلوا الآخرين إليه، وتغير الممر إلى ممر جانبي آخر ودخلت إلى إحدى الغرف، وهناك انقضوا علي كالوحوش، قيّدوني وشدوا القيود حتى ظننت أن معصمي قد انخلع من مكانه .. جاء أحد الضباط وقال لي: أنت معتقل، وقد كنا ننتظرك، وها قد أتيت وحدك، وبدأ الجنود بجرّي بعنف إلى الأمام وضربني أحدهم إلا أني كنت سرحت في داخلي واخذت أفكر بزوجتي، وهل سأراها أم لا ؟! وابتسمت وأنا أفكر أني ربما قد أراها الآن، وأنا وهي نخضع لنفس الابتلاء، سرني التفكير، وكأني بذلك أدفع لها عربون محبتي وانتمائي لقلبها …
وجن جنون الجنود وهم يرونني أبتسم، وصرخوا: بعد قليل ستعرف فقط كيف تبكي، ولن تجد مكانا لضحك في قلبك، وكانوا مخطئين في ذلك ،، فقط بقيت ابتسم .. وسأبقى .. “