
بقلم : مروان أبو فارة
يشكّل ملف الأسرى المرضى في سجون المحتلّ الصّهيوني الدّليل الفجّ الصّارخ على أنّ المحتلّ يخضعهم إلى تجارب مخبريّة، حيث يمكن اعتبار المرض في سجون المحتل بلاء يفوق كل بلاء، فالمعاناة التي يمرّ بها الأسير المريض أقرب ما يكون إلى التّنفّس من ثقب مخيط أو أصعب.
وهناك عدّة مراحل يمرّ بها الأسير المريض، وربّما تكون إحداها أطول من الأخرى وأصعب.
المرحلة الأولى :
كما هو معلوم هي مرحلة التّشخيص وهي مرحلة عادة ما تكون أصعب من العلاج نفسه حيث تطول بصورة تمتدّ إلى سنوات، فهناك في كلّ سجن عيادة محدودة الإمكانيّات، ولا يمكن أن تجتازها إلى المكان الذي يليها في رحلة التشخيص والعلاج إلاّ إذا كنت مدنفا مقبلا على الموت.
بعد أن يشعر الأسير المريض بألم ما فإنّه لابدّ أوّلا قبل أن يصل إلى العيادة الخاصّة أن يمرّ بمساعد الممرّض الذي يأتي كلّ يوم أو اثنين لتفقّد الأقسام. وهو إنسان غالبا ما يكون حاصلا على دورة لمدّة سنة أو ستّة أشهر ولا يمكنك مجادلته حتّى وإن كنت طبيبا بارعا. فالقول قوله والقرار قراره، وهو من يقرّر إن كان الطّبيب سيراك أو لا بكلّ بساطة. وربّما تكون لديه وصفة أو أخرى لا يمكن أن يسمح لك بغيرها إلاّ إذا جرّبتها كما يقول لا كما تشعر أنت. ويمتاز هذا المساعد الطّبّي غالبا بالمجادلة والتمعرف والتفلسف، وكلّ الآراء أمامه خاطئة، وفي الحالات الطارئة ربما يستهلك ساعة من عمر الأسير قبل أن يأتي بحلوله الخنفشارية.
وإذا سمح لك المساعد الطّبي بتجاوز مرحلته وقبل أن يراك الطّبيب لا بدّ أن يضع اسمك على قائمة الانتظار التي غالبا ما تكون أطول من أسبوع، فيكون المرض قد تفاقم وفعل فعله في جسدك ودخلت في مراحل متقدّمة من المعاناة والألم.
المرحلة الثانية
التّشخيص هو العرض على طبيب السّجن الذي يشكّل وحده معاناة وألما شديدين، فهو غالبا لا يفحصك إلاّ بطريقة صوريّة ثمّ يعتمد العلاج الذي يراه دون أن يكون لك الحقّ في الاعتراض أو الاحتجاج ويؤجّلك أسابيع أخرى للعرض عليه.
وهكذا تنتهي مرحلة التّشخيص الأوّليّة ويأتي بعدها دور العلاج الأوّلي الذي يمدّك به طبيب السّجن. وهذا العلاج يجعلك مشدوها، فغالب الأمراض تعالج حسب طبيب السّجن بشرب الماء، ومن ثمّ يزوّدك بدواء يتبع مجموعة الباراسيتامول، وهو دواء بدائي عامّ لا ينفع إلاّ قليلا. وإن منّ عليك بمضادّ حيوي فإن ما تناله هو أدوية لم تعد تستعمل في العالم ولا حتى في بلاده الأدنى مستوى معيشة.
وان راجعته يحرمك من الدّواء، ويقول لك العبارة الشهيرة التي مفادها أنّه هو الطّبيب وأنت المريض وأنّ عليك التّنفيذ دون نقاش.
ثمّ إذا فشل العلاج في المرحلة الأولى لا بدّ من إعادة الكرّة والذّهاب إلى طبيب السّجن وإقناعه أنّك بحاجة إلى علاج أدقّ لحالتك، فيرسلك إلى المحطّة التّالية وهي محطّة التّشخيص من قبل المختصّ، وهي رحلة يصلح أن يكتب عنها رواية بل روايات عوضا عن المرور عنها مرور الكرام في مقال إجمالي.
لكن نضعك في الصّورة بوصفها العام والباقي جهدك في معرفته أولى: تبدأ هذه المرحلة بضرورة اقتناع طبيب السّجن أنّك بحاجة إلى مختصّ، وهذا أمر صعب للغاية، فالطّبيب الذي أمامك على الأغلب من الفشلة والرّعاع في مجال الطّبّ، ومكانته الاعتباريّة والقانونيّة وكونه محطّة لا بدّ من عبورها هو ما يلجئك إليه.
فإذا ما اقتنع فإنّه يكتب اسمك في قائمة طويلة. وربّما يأتي دورك بعد أشهر أو سنة حسب ما يحدّده طبيب السّجن في تقريره عن حالتك، وربّما يصنّفك كما هو الحال غالبا مصابا بمرض لا علاقة له بمرضك الفعلي. وهنا يتغلغل المرض أكثر وأكثر في جسدك ولا تصبح المعاناة في ألم المرض بل في صياغة الحياة اليوميّة لما يقتضيه مرضك.
وحتى تصل إلى حالة التّشخيص من مختصّ فإنّه لا بدّ من السّفر بحافلة من الحديد مقاعد وحراسا وتبقى القيود في يديك طوال الوقت. وتتراوح المدّة ما بين ثلاثة إلى سبعة أيّام ذهابا وإيّابا، والمختصّ الذي توفّره سجون المحتلّ هو عبارة عن طبيب السّجن في مرحلة سابقة ولكن تم نقله تبعا لترقية رتبته، فأنت إذا أمام نفس العقليّة ونفس الممارسة، وغالبا ما تعود من عنده بخفّي حنين وبعض من الأدوية مجهولة الاسم.
أمّا العلاج الذي يقدّمه لك كمريض فيكون بعد تشخيص لا يتجاوز الدّقيقة، والأمر تبعا لمزاجه وقراره، والحديث هنا ليس من باب المبالغة ولا من باب استدرار العطف وتجييش المشاعر بل واقع عليه ألف دليل ودليل.
وبعدما يتمّ تشخيصك من قبل المختصّ في عيادات سجون المحتلّ المركزيّة، تعود مع علاجك التّجريبي الجديد لمدّة تطول أو تقصر دون أن يتابع علاجك أحد أو يرى مدى تأثيره عليك أو أعراضه الجانبيّة طبعا والعالم العارف بما أتحدّث عنه، يعلم أن الأسير المريض يكاد يعانق حرّيّة الموت في مثل هذه الحالات وأنت معه في تقلّبه وأرقه وألمه دون أن تملك له نفعا أو علاجا إلاّ دعاء غدا حيلة من لا حيلة له في هذا العصر.
المرحلة الثّالثة
وإن فشل العلاج فلا بدّ أن تنتقل إلى محطّة العلاج النّهائي، وهي مرحلة العرض على المختص في مستشفى خارجي لا يتبع سجون المحتلّ. وهنا تأتي معاناة أخرى تضاف إلى طول الفترة الزّمنيّة التي يقضيها الأسير في انتظار دوره حيث تتمّ الفحوصات اللاّزمة على فترات متباعدة، فمن المعلوم طبّيا أنّ من يحتاج إلى عمليّة جراحيّة لا بدّ أن يتسلّح بفحص للدّم وصورة أشعّة للصّدر وتخطيط للقلب كحدّ أدنى، وعلك تعجب ان علمت ان الفترة الزمنية الفاصلة بين الفحص والآخر تصل إلى الشّهرين، يعني أنّ الفرق بين فحص الدّم المطلوب وتخطيط عضلة القلب أربعة أشهر، وبعد الفحص الأخير تنتظر ما يقارب أربعة أشهر للقيام بالعمليّة الجراحيّة اللاّزمة لتخفيف ما تشعر به من ألم وأوجاع.
ولن أنسى يوما أنّ صديقا لي أضرب عن الطّعام عشرين يوما ليعجّل في علاجه، وكان من المقرّر القيام بعمليّة جراحيّة له لإصلاح أخرى فشل فيها الطبيب الذي قام بها، ولم ينه إضرابه إلاّ بعد اتّفاق مكتوب سينال بمقتضاه علاجه خلال أربعة أشهر وكم عانى وتألّم وضاقت به الأرض.
وهنا لا بدّ من الحديث المقتضب عن العمليّة الجراحيّة التي يصل إليها الأسير الفلسطيني في سجون المحتلّ بعد معاناة طويلة، حيث يكون الوقت المحدّد لأيّ عمليّة يقارب الأيّام الثّلاثة فقط، وبعدها يعود الأسير إلى الأقسام العاديّة مصحوبا بالألم والخوف من المضاعفات ثمّ يدخل في الدوّامة من جديد بدءا من مساعد التّمريض المتفلسف إلى طبيب السّجن ومنه إلى مختص آخر يتبع السّجن ومن ثمّ إلى المختصّ الخارجي وهكذا دواليك.
خلاصة القول
يجسّد الاقتضاب السّابق تصويرا سطحيّا لجزء من معاناة الأسرى المرضى، ولا يمكن الحديث عنهم دون الحديث عن مقبرة الأحياء المسمّاة عيادة سجن الرّملة الصّهيوني التي تمثّل المختبر الأكبر للتّجارب على الأسرى. ومن يدخلها يصاب بأمراض لا علاج لها وتتفاقم حالته المرضية الأصل حدّ الإشراف على الموت. وهنا يمكن القول أيضا أنّ هناك تقصيرا غريبا وعجيبا في ملفّات الأسرى المرضى، وتحديدا الحالات الصعبة التي تحتاج إلى رعاية ومتابعة عاجلة. ويكتفي البعض بالحديث عن الموضوع دون العمل على إيجاد حلّ واقعي جذري للمسألة ينهي المعاناة ويوقف تجارب المحتلّ على الأسرى.
ومن المهم أن نشير إلى أنّ هناك حالات مرضيّة غريبة ظهرت لدى بعض الأسرى في الآونة الأخيرة لا يمكن تفسير سبب نشأتها مثل الأورام الغريبة.
والذي يدعو إلى الشّكّ في الأمر أنّ الحالات التي تبيّن لاحقا أنّها أورام كانت المتابعة الحثيثة من المحتلّ لها والحرص على أخذ الأدوية أمام مساعد التّمريض وعدم إعطاء اسم الدواء للأسير المريض ولا حتى من يتابع حالته من الأسرى. وكانت هذه الأدوية تعطى لفترات محدودة لا تتجاوز بأيّ حال الثّلاثة أسابيع، ومن ثمّ لا يعود الطّبيب إلى إعطائك نفس الدّواء مهما حصل. وهناك أدوية تُعطى للأسرى المرضى يكون مفعولها سحريّا وسريعا، وحينها يُكثر الطّبيب من السّؤال عن تأثير الدّواء ويتابع الأسير المريض بصورة مكثّفة نادرا ما تحدث. وما زلت أذكر ذلك الأسير الذي أصيب بتآكل في معصمه وكان طبيب السّجن يرفض إعطاءه شيئا إلاّ المسكّنات حتّى يئس الجميع من العلاج، ثمّ قرّرنا صبيحة عيد الأضحى عام 2009 أن نتّخذ موقفا جماعيّا فطالبنا التّسريع بعلاجه. وفعلا حضر نائب مدير السّجن وأجرى اتّصالاته ثمّ وعدنا بإحضار الدّواء بعد ساعات. والغريب أنّ الدّواء كان له مفعول عجيب فلم يمض الأسبوع حتّى عادت يد الأسير سليمة ليس فيها أيّ عيب أو خلل كأنّها لم تكن مصابة من الأساس وهذا يدعو إلى تأكيد الشّكّ ويدلّل عليه.
وهناك آلاف الحالات التي لا يتّسع المجال لذكرها لأنّ كل حالة عبارة عن أعوام من التّألّم والإذلال والإخضاع لأدوية التّجارب، وكم فقدنا من حبيب نتيجة هذه التّجارب، ثمّ تذوي القصّة لأنّنا في بلد يعيش كلّ يوم قصّة تحجب قصص الأسرى المرضى مثل أكبر صحن “منسف” وأطول ثوب تراثي ومهرجان للعنب وأخر للتّين أو الفقّوس، فلا مجال لمتابعة القضايا الهامشيّة كقضيّة الأسرى المرضى مثلا. ولله المشتكى ونسأله أن يمنّ على إخواننا الأسرى جميعا والمرضى تحديدا بشفاء وفرج عاجلين.
هذا جهد المقلّ في الحديث عن ملفّ دامٍ مليء بالتّضحيات والأوجاع اسمه الأسرى المرضى، الملفّ المتناسي كأنّه لم يكن، وربّما يمنّ الله تعالى بفرصة أخرى لتفصيل أعمق وأدقّ.