بقلم: أفنان رمضان.
تحتكم حياة كلّ واحد منّا إلى جملة من المواقف والتّجارب التي تصوغ آراءه وسلوكاته، ولكن ليست كلّ التّجارب متماثلة، فتجربة الاعتقال مثلًا تبقى مميّزة بجملة من الخصائص التي تترك آثارها العميقة في نفس من يمرّ بها، ولئن اعتبر اعتقال الشّباب والرّجال وحتّى الأطفال أمرًا "عاديًّا" في ظلّ الاحتلال فإنّ اعتقال فتاةٍ ما سيظلّ علامةً فارقة في حياتها وحياة كلّ المحيطين بها.
في ليلة من ليالي الربيع في شهر ابريل من عام 2012 وبينما كنت اجهز مشروعًا مدرسيًا.. طوّق جنود الاحتلال المدجّجين بالسّلاح منزل والدي في مدينة الخليل، كان الامر غريبًا جدًا حيث انها المرة الاولى التي يقتحمون فيها منزلنا، وازداد غرابة حينما رأينا المجندات برفقتهم، وتحوّل الاستغراب الى شعور بالفاجعة عندما تاكدنا انهم يحملون قرارًا باعتقالي، وهو ما لم يكن متوقعًا البتّة إذ لا إشارات سابقة دفعتنا لتوقعه، ولكنّ شيئًا كهذا لا يمكن رفضه مطلقًا.
لا زلت اتذكر صوت امي يلهج بالدعاء يرافق خطواتي المتمرّدة، ولم يغب عنّي إلاّ عندما قيدوا يدي وعصبوا عيني واقتادوني بعيدًا عن المنزل، حينها فقط وجدتُني في مواجهة ذلك السّؤال المرعب: "هل أنّ ما يجري حقيقة ام هو كابوس؟".
لم ياخذ التفكير في الإجابة عن هذا السّؤال من وقتي كثيرًا حتى أعلنت لنفسي انّها الحقيقة التي لا بدّ من مواجهتها، وعاهدتها بأنّي لن اضعف ولن اهون ولن أذلّ أمامهم بقوّة من الله، لأبدأ بعدها رحلة الاعتقال التي دامت سبعة أشهر، وكانت بداية التّحدّي في تلك اللّيلة وكلّي إيمان بأنّ الله معي ولن يضيّعني، وقد جعلتني ثقتي بالله أرى سواد الليل نورًا وضياء.
في البداية دفعوني إلى حافّة الطريق ثمّ أخذوا يأمرونني بالمشي تارة والتّوقّف تارة أخرى وأنا معصوبة العينين، ولم تنته تلك المعاناة إلاّ عندما بلغنا إحدى الجيبات العسكريّة التي نقلتنا إلى عتصيون حيث قضيت ليلتي وسط الظّلام الدّامس أستعيد تلك الحكايا التي كنّا نسمعها عن تعذيب الأسرى. وما ان أشرقت الشّمس حتى تمّ نقلي الى عوفر للتحقيق الذي لم يستمر أكثر من ساعتين.
سؤال وجواب، والجواب ليس مهمًا ابدًا فالتهمة مجهزة، وهي العمل مع الكتلة الاسلامية في جامعة "بوليتكنيك فلسطين"، لم يكن هناك أيّ دليل، مجرد اتهام ولا بد من العقاب.
بعد الانتهاء من التحقيق تم نقلي إلى سجن هشارون وهو سجن للفتيات والأشبال، بلغنا المكان الذي استقبلنا برائحته الكريهة، وكان الهدوء مطبقًا لا يقطعه سوى صوت السلاسل الحديدية في ايدي الأسرى وارجلهم، واصوات قوات الشاباص* المسؤولة عن نقلهم، وكانت نهاية رحلتي في القسم الثّاني دون أن أتواصل مع أيّ شخص باستثناء المرور بفتيات يقبعن خلف النوافذ، وكان انطباعي الأوّل عنه أنّه قسم لا يصلح للحياة في شيء، فالغرف محدودة ورائحة الرطوبة قاتلة وقد غزتها الحشرات من كلّ الجهات، وإلى جانب الأسيرات الفلسطينيات فقد وضع الإحتلال متهمات جنائيات معهن إمعانًا في المضايقة والإستفزاز.
ولا شكّ أنّ ولوج مكان بهذا السّوء سيكون ثقيلًا على النّفس التي تخوض تجربة الاعتقال للمرّة الأولى، ولم يكن هناك من حلّ إلاّ التّوكّل على الله والانطلاق في اكتشاف "قاطناته" دون الاهتمام بالمشاعر والعواطف التي لا يمكن تحديدها بشكل دقيق، فكان أن تعرّفت على لينا الجربوني وورود قاسم وأسيرات أخريات سيكون عليّ تقاسم فترة اعتقالي معهنّ.
وبعد إتمام صفقة التبادل ازداد الأمر صعوبة فقد صبّ الاحتلال جام غضبه على الأسرى والأسيرات في السّجون وسعى للتّنكيل بهم، فحرمنا من الملابس الاحتياطية والكتب والاشغال اليدوية، وحتّى الفورة لم تكن إلاّ بضعة امتار فقط، أمّا عن التّواصل مع العالم الخارجيّ فلم يكن هناك من تواصل باستثناء زيارات بعض المحامين وبرنامج الأسرى على احدى الإذاعات المحلية، ونظرًا للفراغ الرّهيب الذي كان يجثم على صدرونا فإنّنا قد اخترنا مواجهته بقراءة كتاب الله والتّحدّث فيما بيننا ورسم أحلام تمنحنا الأمل وتدفعنا للصّمود أكثر.
بدأت رحلات المحاكم واحدة تلو الاخرى حتى صدر الحكم بالسّجن سبعة اشهر وغرامة مالية قدرها سبعة آلاف شيكل وكنت قد أمضيت منها أربعة شهور، والجدير بالذكر هنا أن التّنقّل إلى المحكمة في البوسطة** يعدّ من اسوإ التّجارب واصعبها على الأسرى، فالبوسطة ليست الا نوعًا من انواع العذاب التي يسلّطها العدو على الأسرى، عذاب قد يستغرق أحيانًا يومًا او عدة ايام.
وكم كنت أكره المحاكم بالرّغم من أنّني كنت ألتقي فيها بوالديّ، ففي تلك اللّقاءات أغرق في حالة من الضّعف وأتمنّى لو أرتمي في حضنيهما أشكو إليهما كلّ ما بي من آلام لا توصف، لكن الواقع غير ذلك وكان يقيني بالله ان هذه الايام المريرة ستمر سريعًا لتصبح ذكريات ارويها وانا ارتشف القهوة مع احبتي كما أفعل الان.
وها قد مضت تلك الايام بحلوها ومرّها وقد تعلّمت منها الكثير، فاصبحت أكثر اقترابًا من عالم الأسيرات اللاتي لا يخلو أيّ يوم من أيّامي من الدعاء بان يفرّج الله كربهنّ ويحرّرهن وكلّ أسرانا.
تحرّرت من الأسر بهمّة اعلى للحياة اكملت دراسية الجامعية وحصلت على درجة البكالوريوس في هندسة الحاسوب ثم رزقني الله بالزوج الصالح، ولكنّ السّجون أبت إلاّ أن تحرمنا ممّن نحبّ، فزوجي اعتقل منذ اكثر من عام وخرج للحرية في الثامن والعشرين من يوليو 2016، وقد رزقني الله منه صلاح الدين ويحيى قرّة العين وملاذ العيش، وإنّي بإذن الله سأكون لهما المدرسة التي يتعلّمان فيها حبّ الوطن والذّود عن حماه.
إنّها تجربة قد تختلف عن تجارب اعتقال أخرى ولكنها في النّهاية تبقى أنموذجًا لمعاناة الفتاة الفلسطينيّة، فهذة المحن تصهر الوعي أكثر وتبني من يخوضها ليصبح أقوى وأقدر على مواجهة المحتل بعد التعرف على غطرسته عن قرب، لتدفع عجلة التّحرير مسافة أخرى إلى الأمام.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
*الشاباص: مصلحة سجون الاحتلال.
**البوسطة: هي سيارة حديدية لنقل الأسرى.