بقلم: أ. رياض الأشقر.
يعتبر العزل الانفرادي من أقسى أنواع العقوبات التي تلجأ إليها سلطات الاحتلال بحق الأسرى، وتعد انتهاكًا صارخًا للمادة رقم 76 لاتفاقيات جنيف والقانون الدولي والإنساني والتي تنص على: "منع النقل الفردي أو الجماعي بالإضافة إلى الترحيل للأفراد من الأراضي المحتلة إلى أراضي القوة المحتلة…"، إلا أن "الشاباك"* الصهيوني لا يزال يستهدف بهذه العقوبة الأسرى ذوي الأحكام العالية بهدف كسر إرادتهم ومحو فكرهم المقاوم.
لقد كان العزل الانفرادي سياسة قمعية مشتركة بين قوى الاستعمار والاحتلال على مدار القرون الفائتة لما يخلّفه من آثار نفسية وجسدية خطيرة على الأسير، وكان للاحتلال الصهيوني بصمته في ممارسة هذه السياسة بكل وحشية وسادية، فعانى الأسرى الفلسطينيون المعزولون على مدار سنوات الاحتلال من ظروف لا إنسانية، فكلمة "العزل" تعني للأسير احتجازه منفردًا أو بصحبة أسير آخر في زنزانة ضيقة لا تزيد مساحتها عن 1.5×2.5 متر مربع، تنبعث منها الروائح الكريهة، وتغزو جدرانها الرطوبة والعفونة، وبداخلها حمام أرضي قديم تخرج من فتحته الجرذان والقوارض ولا تفصله عن باقي الزنزانة أية فواصل، ويوجد فيها نافذة واحدة صغيرة جدًا، ومغطاة بلوح معدني سميك لمنع دخول الهواء، ومضاءة بمصباح كهربائي من الفلوريسنت الذي يؤذي العينين ويؤثر على نظر الأسير.
ويمضي الأسير المعزول فترات متراوحة في العزل حسب توصية جهاز المخابرات، وتضاف إلى هذه العقوبة عقوبات أخرى كحرمان الأسير المعزول من مقابلة المحامي، ومن زيارة ذويه، واقتحام زنزانته وتقييده بالسرير وقد تُصادَر مقتنياته وحاجياته من الكتب والأوراق والأجهزة الكهربائية مع فرض غرامات مالية عليه.
والعزل عقوبة تفرضها إدارة سجون الاحتلال إمعانًا في إذلال السجين ومحاولةً لكسر إرادته وتحطيم نفسيته، حيث يعيش معزولًا عن العالم الخارجي لا يستطيع الاتصال مع أي إنسانٍ سوى السجان، وقد يقضي الأسير سنوات عديدة من عمره دون أن يعلم متى يخرج من هذه الزنزانة الضيقة، بحيث يعرض على محكمة صورية كل ستة شهور، وهذه المحكمة تأتمر بأمر "الشاباك"* ومصلحة السجون "الشاباص"** وتفتقر لأدنى مقومات العدالة، وبدورها تقوم بتمديد عزله لمدة جديدة.
ويؤدي العزل -وإن كان لفترة قصيرة- إلى وقوع ضرر نفسي خطير على الأسير بدءًا من اضطرابات النوم والاكتئاب والخوف والاضطرابات الذهنيّة، وفقدان الوعي بالزمان والمكان، وحالات الارتباك الحادّة، كما قد ينتج عن العزل لفترة طويلة حالة من فقدان الأهلية "الجنون"، وهذا ما جرى مع الأسير "عويضة كلاب" من غزة والذى تحرر في صفقة وفاء الأحرار بعد أن أمضى 20 عامًا في السجون، قضى منها 13 عامًا في العزل الانفرادي، فأصبح لا يعرف الأسرى من حوله كما كان يرفض الخروج لزيارة ذويه، وبعد إطلاق سراحه لم يستطع التأقلم مع المجتمع بحيث تابع الجلوس بوضعية القرفصاء وبنظرات تحملق في السماء ليدخل في عالم صمته كما كان في زنازين العزل.
فإن كان هذا حال الأصحاء نفسيًا في العزل الانفرادي، فإنه أشد وطأة وأثرًا على أولئك الأسرى الذين يعانون مسبقًا من أمراض نفسية، ومن المرجح أن يتسبب في إثارة وتحفيز مشاكل نفسية وعضوية كانت خاملة قبله، وقد يفضي العزل الانفرادي إلى الموت، وهذا ما جرى مع الأسير الشهيد رائد محمود أبو حماد 31 عامًا من القدس والذي استشهد في 2010 بعد عام ونصف من عزله.
والأخطر بأن العديد من تلك الاضطرابات النفسية التي تنتج خلال العزل الانفرادي تبقى ملازمة للأسير بعد خروجه، فترافقه عند عودته إلى السجن الجماعي أو حتى عند عودته إلى حياته الطبيعية بعد إطلاق سراحه.
كما أن للعزل أثارًا جسدية على الأسرى أيضًا، حيث يعاني الأسرى المعزولون من مشاكل في الجهاز الهضمي والأوعية الدموية، القلب والمسالك البولية، كما ويتسبب بإصابة الأسير بضيق التنفس والصداع النصفي، وأوجاع أخرى لا حصر لها.
وأخيرًا، فقد أدرك أسرانا البواسل خطورة تلك الآثار النفسية والجسدية الناشئة عن سياسة العزل الانفرادي التي تنتهجها إدارة السجون الصهيونية، فقاموا بعدد من الخطوات الاحتجاجية مطالبين بإنهاء هذه السياسة القمعية، كان آخرها وقوفهم في وجه سجانهم باتخاذ قرار الإضراب الجماعي في السابع عشر من أبريل عام 2012 وشارك فيه قرابة 2000 أسير ومعتقل، والذي نجح أخيرًا بعد شهر من الإضراب ليتمخض عن هذا الانتصار إنهاء العزل الانفرادي لعشرات الأسرى وتقديم وعود من قبل إدارة السجون بإلغاء هذه السياسة لاحقًا.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
*الشاباك: جهاز الأمن العام للاحتلال.
**الشاباص: مصلحة سجون الاحتلال.