الأسرى المحررين

اختطاف الأسرى المحررين في صفقة وفاء الأحرار .. دروس وعبر

بقلم :- المهندس وصفي قبها

أسير محرر ووزير سابق

لقد شكل يوم الثلاثاء الثامن عشر من شهر أكتوبر عام 2011م محطة مضيئة في مسيرة المقاومة الفلسطينية، حيث استطاعت انتزاع حرية أكثر من 1027 أسيراً وأسيرة على دفعتين، الدفعة الأولى كانت 550 أسيراً من أصحاب الأحكام المؤبدة والعالية، وذلك  في إطار صفقة “وفاء الأحرار”، حيث وبعد حوالي خمس سنوات ونصف تقريباً استطاعت المقاومة إنجاز صفقة التبادل وإخراجها إلى حيز التنفيذ، حيث تمَّ إطلاق سراح الجندي الأسير لدى حماس “جلعاد شاليط” والذي أسرته المقاومة في الخامس والعشرين من شهر يونيو 2006م خلال عملية عسكرية مهنية وجريئة عرفت بـ “الوهم المتبدد “.

وبعد حوالي سنتين ونصف من تنسم هؤلاء الأبطال نسيم الحرية، جاء قرار إعادة اعتقالهم سياسياً بامتياز، حيث أن الاحتلال الذي ليس له عهد ولا ذمة قد تنصل من الالتزامات التي قدمها للراعي المصري مستغلاً توتر العلاقة بين حركة حماس والحكومة المصرية، وأن ما يقدمه من تبريرات لإعادة الاعتقال ليس له أي مسوِّغ قانوني، لأن الأمر ليس له علاقة بمخالفات قانونية أو انتهاك لشروط الإفراج كما يدّعي الاحتلال زورا وبهتانا، فسلطات الاحتلال قامت باعتقال العشرات من هؤلاء الأسرى بشكل جماعي وخلال يومين فقط! حتى بلغ عدد من أعيد اعتقالهم 74 أسيرا، وذلك بعد عملية الخليل يوم 14/6/2014م ، حيث تم أسر ثلاثة مستوطنين، مما يؤكد وبشكل لا يحتاج إلى تأويل بأن إعادة الاعتقال جاء استجابة وتنفيذاً لقرارٍ سياسي خالص.

لقد كان قيام سلطات الاحتلال بتشكيل ما يسمى “لجنة الاعتراضات العسكرية” هي اسطوانة مشروخة وذر للرماد في العيون وللظهور أمام الرأي العام العالمي أن الأسرى قد ارتكبوا مخالفات تستوجب الاعتقال، الأمر الذي استدعى من سلطات الاحتلال إعادة اعتقالهم، ولا شك أن إجراءات الاحتلال وتسويقها قانونياً لا يخرج عن منطق التضليل والتدليس، وأن قيام سلطات الاحتلال بالإفراج عن عدد قليل جداً ممن أعيد اعتقالهم بعد أن تبين لها أنهم لم يرتكبوا مخالفات هو عملية تضليل بامتياز للرأي العام العالمي، حيث يأتي ذلك في سياق تبرير عملية احتجاز العشرات من الذين أعيد اختطافهم، وقد قامت محاكم الاحتلال العسكرية بإعادة الأحكام السابقة بحق الغالبية منهم.

إن نوايا سلطات الاحتلال المسبقة بإعادة اعتقال الأسرى المحررين قد أعدت له العدة قبل التوقيع على الصفقة، منذ أن حصل تقدم ملموس على المفاوضات غير المباشرة سواء من خلال الوسيط الألماني أو الرعاية المصرية لهذه المفاوضات، وقد استبقت حكومة الاحتلال قرار التوقيع على الصفقة من خلال الموافقة على القرار العسكري رقم (1651) البند (186) والذي يجيز للجنة عسكرية “خاصة” بإعادة اعتقال أسرى تم تحريرهم ضمن صفقات تبادل للأسرى، ليقضوا ما تبقى من مدة محكومياتهم الأصلية في حال ارتكاب الأسير المحرر أي مخالفة استناداً لمواد سرية! وقد جاء الاستناد إلى “مواد سرية” لا يطّلع عليها الأسير أو محاموه، في خطوة مدروسة حتى لا يفتضح أمر هذا المحتل وينكشف وجهه من تقديم بنود علنية الأمر الذي سيكشف زيف قضاء وديمقراطية هذا المحتل.

إن هذا القرار العسكري الجائر الذي يُجيز إعادة اعتقال أي أسير لحكمه السابق في حال وقوعه في أي مخالفة حتى لو كانت مخالفة سير أو مشاركة في مظاهرة سلمية، قد تعيد الأسير إلى السجن لقضاء المدة المتبقية من حكمه الأصلي، وفي هذا السياق لا توجد إمكانية أو صلاحية لدى أي لجنة أو محكمة بتقصير مدة السجن أبداً! وهذا يؤكد سوء النية المبيّت من الاحتلال لإعادة اعتقال هؤلاء المحررين، الأمر الذي بدا واضحا بعد حادثة اختفاء المستوطنين الثلاثة في مدينة الخليل يوم 14/6/2014م، وكيف تصرف الاحتلال بعد العملية التي جعل منها الشماعة والغطاء من أجل تنفيذ مخطط أعده مسبقاً لإعادة اختطاف المحررين لابتزاز الشعب الفلسطيني والانتقام من هؤلاء المحررين الذين أطلق سراحهم رغم أنفه في صفقة تبادل وطنية مشرفة بحق، ولممارسة الضغط على المقاومة وحركة حماس تحديداً عندما يحتاج الاحتلال لذلك في مرحلة ما.

إن الحكومة المصرية الراعية لهذه الصفقة، وهي التي التزمت  أمام المقاومة ببنود الصفقة، تعلم علم اليقين أن الاحتلال قد انتهك بنود وشروط الصفقة وأن الواجب الأخلاقي يُحتم عليها الخروج عن صمتها والتدخل لوقف انتهاكات الاحتلال وإجباره لإطلاق سراح جميع من أعاد اختطافهم، وإلغاء كافة الإجراءات التي اتُّخذت بحقهم وتعويضهم عن ما لحق بهم من ظلم وتعسف، وذلك حفظاً لكرامتها ومصداقيتها والتزاماً بتعهداتها، فما قامت به سلطات الاحتلال يُعد جريمة صهيونية وخرقاً واضحاً وفاضحاً وخطيراً للاتفاق الذي تم برعاية وضمانات مصرية، فالعنجهية الصهيونية لم تستطع هضم واستيعاب توقيعها على الصفقة وخضوعها لشروط واشتراطات المقاومة، وهي لم تستطع بعد أيضاً أن تتجرع مرارة هزيمتها أمام المقاومة الفلسطينية، فجاء إعادة تثبيت الأحكام العالية بحقهم من خلال اعتقال تعسفي وإجراءات شكلية دون أي وجه حق.

إن كل ما قامت به حكومة الاحتلال مخالف لكل الأعراف والقوانين الدولية، الأمر الذي يؤكد أن  الكيان الصهيوني يتصرف كدولة خارجة عن القانون ولا يلتزم بالعهود والمواثيق الدولية ولا بالاتفاقات الموقعة، لذلك عندما نعلم أن رئيس دولة الكيان السابق “شمعون بيريز” الذي وقع ملفات الإفراج عن الأسرى المحررين قد كتب وبخط يده وعلى كل ملف “إنني لا أسامح ولا أغفر ولا أعفي عنكم” ، فهذا بحد ذاته كافٍ للكشف عن نوايا هذا المحتل بسعيه لإيجاد الفرصة والظرف المناسب لإعادة اعتقال من خرج من السجون محرراً رغم أنوفهم، لذلك لم يتوان العدو الصهيوني عن ملاحقة واستهداف المحررين ومنذ اليوم الأول للإفراج عنهم؛ وقد قيد حركة غالبيتهم في مساحات جغرافية محدودة، لذلك لم يكن مستبعداً على الكيان الصهيوني أن ينقض عهوده ومواثيقه، ويتنصل من اتفاقاته ويضرب بكل ذلك عرض الحائط!

لذا فقد بات واضحاً ومؤكداً أن القوة وحدها هي من تلزم حكومة الكيان بتطبيق أي معاهدة أو اتفاق معها دون محاولة لنقضه أو التحايل عليه، وإلا فإن هذا الكيان يتصرف على أنه دولة فوق القانون، لأن هناك من يقدم له الغطاء والحماية على الساحة الدولية.

ولكن وفي خضم هذه الانتهاكات وبعيداً عن موقف الحكومة المصرية السلبي فإن هناك واجباً وطنياً وأخلاقياً بضرورة أن يكون للسلطة الفلسطينية دورٌ ولو من خلال الضغط على الوسيط المصري ليقوم بدوره لإلزام حكومة الاحتلال لتنفيذ ما تم الاتفاق عليه في صفقة “وفاء الأحرار”،

واليوم وقد أعيد تثبيت أحكام الغالبية؛ فإن الأسرى المعاد اختطافهم قد استنفدوا جميع الخيارات القانونية المتوفرة، وبقي لديهم خيار التوجه باستئناف للمحكمة العليا. ولكنّ تمكّن المقاومة الفلسطينية من أسر عدد من جنود الاحتلال والاحتفاظ بعدد من جثث جنوده خلال العدوان الأخير على غزة “العصف المأكول” والذي أسماه الاحتلال “الجرف الصامد” يمثّل بارقة أمل للمحرّرين الذين أعيد اعتقالهم ولكلّ الأسرى، فقد أكّد عدد من قيادات حماس أن لدى الحركة ما يمكّنها من إطلاق سراح الأسرى، وقد اشترطوا  الإفراج المسبق عن المختطفين من الأسرى المحررين في صفقة “وفاء الأحرار ” قبل تقديم أي معلومة حول ما لدى المقاومة من جنود أسرى وجثث وأشلاء، وتعتبر ذلك استحقاقاً لا يجوز التنازل عنه أو إهماله، وهذا ما أكده مؤخراً القيادي الكبير في حماس الدكتور محمود الزهار في كلمته في انطلاقة حماس الثامنة والعشرين.

يبقى القول أن مواقف جميع الأطراف من إعادة اعتقال هؤلاء المحررين باهتة ولا ترتقي لحجم المسؤولية والأمانة تجاه هذا الملف، وأقصد هنا وبالتحديد الطرفين الفلسطيني والمصري، الأمر الذي يبعث على الاستياء الشديد من هذه المواقف الباهتة ومن كل الأطراف الدولية إزاء إعادة اختطاف الأسرى المحررين، فاليوم وبعد أكثر من عام  ونصف على إعادة اختطافهم مطلوب من كل هذه الأطراف تقديم “كشف حساب” عن ما قامت به من إجراءات وتحركات على كل المستويات المحلية والدولية للضغط على الاحتلال وإلزامه بالإفراج عنهم، وأن قيام هذه الأطراف وبعض المؤسسات العاملة في مجال حقوق  الإنسان والأسرى بتوكيل المحامين لمتابعة قضاياهم أمر بَدَهي وروتيني وهو ما يتم القيام به عادة لكل فلسطيني يتم اعتقاله، ولا يمكن اعتبار ذلك انجازاً! خاصة أن هجمة إعادة الاعتقال قد جاءت ضمن سياسة ونوايا مبيتة ومخطط لها مسبقاً من قبل حكومة الاحتلال، لضرب معنويات الشعب الفلسطيني ومقاومته بشكل عام والأسرى في سجون الاحتلال على وجه التحديد.

إن ما قام به الاحتلال من اختطاف لهؤلاء الأسرى المحررين هو استهانة بكل الأطراف، وتحديدا الراعي المصري، الأمر الذي يلقي بالمهمة والمسؤولية الكبرى على كاهل السلطة الفلسطينية وحكومة “الوفاق” التي لم تقدّم شيئاً على الرغم من مرور قرابة عام ونصف على إعادة الاعتقال ولم تضطلع بمهامها ومسؤولياتها للتحرك دولياً ووضع الراعي المصري أمام التزاماته وتعهداته ومسؤولياته تجاه قضايا الأسرى بشكل عام ومحرري “وفاء الأحرار”  صفقة شاليط على وجه الخصوص.

وأمام كل ما تقدم يعوّل الأسرى والشعب الفلسطيني جداً على المقاومة الفلسطينية أنها قد استفادت حقاً من كل الثغرات والأخطاء -مهما كانت صغيرة-التي حصلت خلال إنجاز صفقة “وفاء الأحرار”، خاصة أن الشعب وأسراه ينتظرون صفقة “وفاء الأحرار 2 ” ، وأن تكون هناك عملية تقييم حقيقية لكل جوانب الصفقة قبل التوقيع على الصفقة الجديدة، والاستفادة وأخذ الدروس والعبر، فصفقة ” وفاء الأحرار” إنجاز وطني كبير وضخم، وإن عملية التقييم ترفع من قيمة هذا الإنجاز وتؤكد على مهنية وشفافية وعدالة ومصداقية من ساهم جزئياً أو كلياً في إنجاز هذا الصرح الضخم، فإعادة اعتقال محرري الصفقة وإعادة الأحكام لهم يعتبر من الأخطاء التي يجب الوقوف عليها والتحرك بسعي حثيث لضمان حريتهم.

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى