
بقلم: هبة الجندي.
هذه ليست صورة فوتوغرافية عادية تضعها العائلة في ألبوم الذكريات خاصتها وتمر عليها مرور الكرام، وإنما هي صورة استثنائية لعائلة صغيرة مكونة من ثلاثة أفراد لم تجتمع يومًا في مكان واحد؛ على طاولة الإفطار أو في حديقة عامة أو في مدرسة أو حفل تخرج، لم يجمعها موقف مضحك واحد يسري عليها ليالي الفراق الطويلة ولحظات البعاد الأليمة، فقامت الأم الصابرة بدمج الوجوه الثلاثة في صورة واحدة، الزوج.. والإبن.. والزوجة، علهم يلتقون في بطاقة صغيرة ما دامت الدنيا بسنواتها الثلاثة عشر ضاقت عليهم ولم تجمعهم.
محمد عطية أبو وردة
هو ابن مخيم الفوار الواقع جنوب مدينة الخليل والمولود في السابع عشر من شهر يناير عام 1976، تربى في كنف أسرة كريمة مدته بالتعاليم الصحيحة للدين الحنيف وعلى رأسها حب الأوطان وبذل النفس لأجلها، فنشأ على ما شب عليه وانخرط في العمل الجهادي باكرًا مدافعًا عن أرضه ورافضًا لوجود الإحتلال الغاشم على ترابها.
وفي أحد الأيام، وأثناء تأديته لصلاة الفجر مع رفيقه أبو أيمن قواسمة في أحد المباني، قام الإحتلال باقتحام المكان وأسر المقاومين البطلين، لتصدر المحكمة الصهيونية الشكلية حكمًا على “أبو حمزة” بالسجن 48 مؤبدًا قضى منها ثلاث عشرة عامًا في سجن ريمون، وهو بهذا يصبح صاحب ثاني أعلى حكم في سجون الإحتلال.
إرادة من حديد
لم يُسلم محمد أبو وردة إرادته للإحتلال ولم يذعن، بل شرع في تحويل المحنة التي يمر بها إلى منحة من الله عز وجل، فقد استغل الوقت -وهو الذي يملك الكثيرمنه- في قراءة القرآن وحفظه، ثم انصرف الى التدبر في آياته والتفكر في معانيه، حتى اتقن أحكام التجويد وأصبح قادرًا على تدريسها للأسرى الآخرين ضمن مساقات جامعية نظمها الأسرى وأولوها اهتمامًا خاصًا.
ومن ناحية أخرى فقد عمل هو وزملاؤه السبعة الذين يشاركونه الزنزانة على جعلها خلية للعمل لا مكانا للخمول والكسل، فكانوا يتبادلون الكتب ويتناقشون حولها، وينظمون حلقات للعلم والدراسة، بالإضافة إلى الإلتزام بجدول العمل اليومي والذي يتضمن التنظيف والترتيب، وقد يتضاعف في شهر رمضان الفضيل فيدخل طهو الطعام وتحضيره والخطابة والمسابقات والإمامة في الصلاة ضمن اعمال الجدول.
أبوة من خلف القضبان
وضعت زوجة الأسير محمد عطية ابنها حمزة بعد خمسة شهور على أسره، وبالرغم من وقع حكم السجن على نفسها إلا أنها قابلته بالصبر والدعاء، وهي إلى جانب كونها أمًا عظيمة عملت على تربية ابنها تربية صالحة لتكون له الأم والأب والأخ والأخت والصديق، قد خاضت تجربة الأسر لأربعة شهور التقت خلالها بزوجها لدقائق قليلة دون إبنهما حمزة.
منع الإحتلال أبا حمزة من رؤية إبنه لعام ونصف، ثم سمح بذلك لدقائق قليلة لم تكفي شوق الأب إلى إبنه، ولم ترو حنين الطفل إلى والده، فأي علاقة تلك التي تحدها جدران أربعة ويفصل بين روحيها جدار سميك من الزجاج يمنع الأب من إحتضان إبنه والمسح على شعره أو التربيت على كتفه، والإكتفاء بقبلة أو إبتسامة من خلف زجاج بارد.
وكثيرًا ما تفنن الإحتلال في إصدار قرارات مفاجئة ظالمة، فتارة يلغي موعد الزيارة المتفق عليه منذ شهور وتارة يقوم بتفتيش مستفز للزائرين بقصد إفتعال المشاكل وإلغاء الزيارة، أو إنزال أحكام عقابية بالأسير أو إلقاء الأغراض التي يحضرها الزوار إلى ذويهم أمام أعينهم للخارج.
“عرفتي ليش يمّه بحبش آجي؟”
تذهب الأسرة لزيارة أسيرها بقلب ملتهب، فلا هي تدري أتفرح أم تحزن، تبكي أم تضحك، وكثيرًا ما شهدت قاعات الزيارة في سجون الاحتلال مشاهد أليمة خلفت في القلب عبرات موجعة، ومن أحدها ما تحدثت به أم حمزة قائلة: “في البداية لم يسمحوا لنا -أنا وإبني حمزة- بالزيارة، بل كانت أشبه بجلسات محاكم بوجود طاقم كامل من المحامين، وأتذكر أننا في إحدى المرات حين قصدنا السجن وكان عمر إبني ثلاث عشرة عامًا حينها، لاحظت أن حمزة يحاول كبت دموعه ومسحها بيده كلما سالت واحدة رغمًا عنه، ففراق حمزة لأبيه كان ذا أثر كبير في نفسه خاصة وهو في هذه المرحلة الحرجة من عمر المراهقة، وكثيرًا ما كان يحاول التملص من زيارة أبيه ولكنني أرفض.
وبعد أن خرج علينا “أبو حمزة” وتحدثنا وتبادلنا الأخبار لوقت قصير، هممنا بالمغادرة، وفور وصول البوابة بكى حمزة بنشيج مُر فاحتضنتُه بمرارة أكبر، وراح يردد: {عرفتي ليش يمّه بحبش آجي}”.
نصفه لي ونصفه لك
تطلب الأمر ثلاثة عشر سنة، حتى سُمح لحمزة بالتقاط صورة له مع والده دون والدته، وثلاثة عشر سنة حتى سُمح للزوجة بالسلام على زوجها باليد، وفي هذا يُظهِر الاحتلال وجهه الأسود الوحيد إلى العالم على حقيقته.
ولم يفُت أبا حمزة أن يمنح لزوجته شيئًا عظيمًا قبل مغادرتها، بل هو وثاق ورباط لا أمتن منه، ألا وهو المصحف الشريف، فقد قسم أبو حمزة مصحفه نصفين ومنح زوجته أحدهما وإحتفظ بالآخر، ولعل في هذا دلالة كبيرة على الطريق الذي يدعو الزوج زوجته إلى السير فيه لتربية حمزة، كي يشب على درب أبيه .. بطلًا من أبطال فلسطين .. وجنديًا من جند الله المخلصين.