إلهام الأسر

تهريب "النّطف المنويّة"

 

 

بقلم: أ. عبد الناصر فروانة.

 

يدرك الأسرى وبوعي كبير أنّ الحياة داخل المعتقلات يجب أن تستمرّ رغم الموت الذي يحيط بهم ويحاول اقتناصهم الواحد تلو الآخر، لذلك تراهم يتعالون على قيودهم وآلامهم، ويفكّرون دومًا في ابتداع أساليب جديدة من المقاومة وأسباب أخرى للفرح. وإنّهم ليدركون أيضًا أنّ سعادة النفس وانشراح الصدر لا يتحقّقان إلا بالثبات والمواجهة، والتحدي والانتصار على من يسلب حريتهم ويقيد حركتهم وينكّل بهم ويحرمهم من أبسط حقوقهم الإنسانية، فلا عجب أن يكون الاهتمام الرّئيسيّ للأسرى هو النّضال من أجل تحقيق الانتصارات على سجّانيهم، ومع كل انتصار جديد يفرحون ويتلقون جرعات جديدة من الفرح والأمل، هذه حالهم وتلك هي حياتهم. ولقد حقّقوا خلال مسيرتهم الطّويلة الكثير من الانتصارات وانتزعوا العديد من الحقوق، ولعلّ معركة تهريب النطف المنوية هي واحدة من المعارك التي بدأ الأسرى خوضها في السّنوات الأخيرة وأكّدوا من خلالها أنّهم قادرون دومًا على ابتكار أسلحة جديدة يواجهون بها العدوّ وينتصرون عليه، وإنّه لسلاح من نوع خاصّ أثبت من خلاله الأسرى مدى حبّهم للحياة وتمسّكهم بها فانتصروا رغم جدران السجن الشاهقة، وعيون السّجّان الحاقدة، والاجراءات الأمنية المشدّدة، وكاميرات المراقبة المعقدة.

 

كانت فكرة تهريب النّطف وأطفال الأنابيب قد نوقشت بخجل أوائل التسعينيات من القرن الماضي بين أوساط مجموعة صغيرة من الأسرى ذوي الأحكام العالية، ولاقت حينها قبولًا لدى بعض الزوجات، فكانت انعكاسًا لثنائيّة المعاناة الصّامتة للأسرى وزوجاتهم، وفي ذات الوقت رغبة الأسرى الجامحة واصرارهم على تحدّي السّجّان وانتزاع الحقوق وتحقيق حلم الإنجاب رغم السّجن.

 

وعلى مرّ السّنوات لم تغب الفكرة عن اذهانهم ولم تسقط من حساباتهم، وظلّت حاضرة في مخطّطاتهم، مؤجلة التحقق لحين اتساع دائرة القبول وتوفر الظروف المناسبة وعوامل النجاح الممكنة، وبعد بضع سنوات تجرأ عدد من الأسرى على تنفيذها، وتمكنوا بالفعل من تهريب "نطف منوية"، وبالرغم من سريتها ومحدوديتها، إلّا أنها عكست ما يدور في وجدان الأسرى وزوجاتهم. وبالرّغم من فشل تلك المحاولات وعدم نجاح التّجارب السابقة فإنّ عزيمة الأسرى لم تفتر وآمالهم لم تُحبط وأحلامهم لم تصادر، بل على العكس منحهم النّجاح في تهريب النّطف دفعة جديدة من التحدي والإصرار على مواصلة الطريق نحو تحقيق الانتصار المأمول وتجسيد حلم الانجاب المشروع رغم صعوبة الظروف وتعدد المعوقات، وبالفعل كان لهم ما أرادوا، عندما نجح الأسير الفلسطينيّ "عمّار الزّبن" في تحقيق النّصر المنتظر وهو المحكوم بالمؤبّد، فأبصر "مهند" النور في رحاب الحرية بين أهله وأسرته وكان ميلاده في أغسطس عام 2012 مؤسّسًا لمرحلة جديدة تُعَمَّمُ فيها التّجربة ويتحوّل الانتصار من فرديّ إلى انتصارات جماعيّة، وكان ميلاد مهنّد عمّار الزّبن انطلاقة نوعيّة نحو معركة علنيّة ومسيرة مظفّرة من أجل انتزاع حق سلبته إدارة السجون الصهيونية، وأقرته المواثيق الدولية وكفلته الشريعة الإسلامية.

 

نجاح هو الأول بعد محاولات كثيرة، وتلته عشرات النجاحات المتكررة التي أُنجب في سياقها قرابة خمسين طفلًا بذات الطريقة المعقدة، ولم يُسجِل تلك النجاحات أسرى ينتمون لهذا التنظيم دون غيرهم، أو يقبعون في سجن واحد، أو أسرى ينحدرون من منطقة جغرافية بعينها، وإنما تعددت الأسماء والانتماءات ومناطق السكن، وغدت ظاهرة لافتة عمّت السجون وأربكت السّجّان، وأصبحت جزءًا من المواجهة المستمرة مع الاحتلال وثورة من أجل الحياة والوجود.

 

ولقد عبّرت تلك الظّاهرة عن همّ إنسانيّ عميق ورغبة جامحة في تحدّي السّجّان ومواجهة سياسة الطّمس الإنساني، والتّدمير الوجداني، الذي تمارسه سلطات الاحتلال في حق الأسرى، فليس أقسى على الاحتلال من هذا التكاثر الفلسطيني، ومن استمرارية الحياة رغم تشديد الخناق المفروض على الأسرى، لذلك لم يرق لسلطات الاحتلال هذا العمل، الذي يُنظر إليه فلسطينيًا على أنه انتصار، فأرادت إحباط الفكرة والقضاء على الظاهرة، باتخاذ إجراءات عقابية، فردية وجماعية، بحق الأسرى داخل السجون، والأخطر من ذلك اتخاذها إجراءات تعسفية وخطوات عنصرية وغير أخلاقية بحق الزوجات والأطفال المولودين من نطف مهربة لأسرى فلسطينيين. ولكنّ التحدي قائم والمعركة مستمرّة والظاهرة تتسع والانتصارات تتكرر، فخلف القضـبان رجال يتحدون السجان ويعانقون الحياة التي ناضلوا من أجلها، ويهرّبون النطف المنوية كي تنجب نساؤهم أطفالًا لهم، يحملون أسماءهم، ويقاتلون من أجل حياة أفضل.

 

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى